تحولات الأسرة الراهنة وانعكاساتها على المسنين

تعيش الأسرة المغربية مجموعة من التحولات العميقة والتي مست بنيتها وشبكة علاقاتها المفتوحة، وذلك بحكم التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي وقعت على نمط الحياة العامة،

إن الحديث عن تحولات الأسرة يستلزم إدراك طبيعة سياق التاريخ الاجتماعي للمغرب، وذلك حينما هيْكلتِ الدولةُ ومؤسساتُها المجتمعَ من خلال إحداث شرائح اجتماعية أصبحت ترتبط بالدولة وبمصالحها، وتعيش الدولة من خلالها، وتتمثل هذه الشرائح خاصة في فئات الموظفين التي ظهرت لأول مرة في التاريخ الاجتماعي بالمغرب في فترة الحماية مع إدخال دواليب الإدارة الاستعمارية([1]).

فما هي طبيعة بنية الأسرة، وما أثر تحولاتها الراهنة على شريحة المسنين؟

أولا: بنية الأسرة المغربية

عرفت الأسرة المغربية خلال السنوات الأخيرة مجموعة من التغيرات والتحولات أدت إلى تغير في البنية والأدوار والأجيال في الأسرة الواحدة، بحيث أصبحت الأسر غالبيتها أسر نووية، تتكون من الزوجين وأبنائهما، في مقابل الأسر الممتدة.

 وإلى عهد قريب، كانت الأسرة المغربية، وخصوصا التي تعيش في القرى والبوادي، تنحت جذورها في نسيج المجتمع المغربي عبر ثـلاث مستـويات([2]): دائرة الأسرة المشتركة (خيمة واحدة وبيتا واحدا)؛ دائرة الفخذ (عدة بيوت يجمعها الانتساب إلى جد واحد، يعود إلى حوالي خمسة أجيال)؛ دائرة العشيرة أو القبيلة وتتألف من أربعة إلى ستة أفخاذ، واليها ينتمي جميع المنحدرين من جد واحد أو أصل واحد.

 وكان الارتباط العشائري والقبلي يسود العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، إلى درجة أنهم كانوا يعيشون ما يسمى بالاقتصاد المشترك وهو ما”يصطلح على تسميته محليا بـ”الميدة الوحدة” أو “الميدة المشروكة”([3])، ذلك أن الأسرة القروية كانت تقوم بعدة وظائف منها: الوظيفة الاقتصادية، والتربوية، والعلاجية، والحمائية، والتضامنية والترفيهية([4])، بمعنى أن العائلة أو الأسرة الواحدة كانت تحقق اكتفاء ذاتيا على أغلب المستويات؛ إلا أن التحولات العميقة التي مست كيان المجتمع بصفة عامة، والأسرة  بصفة خاصة، جعل من هذه الأخيرة  تفقد الكثير من مقومات اهتمامها بفئة المسنين، وزيادة منسوب الفردانية في الأسرة، مما فرض على الدولة إقامة دورا  للعجزة والمسنين الذين تخلت  عنهم أسرهم.

ثانيا: أثر تحولات الأسرة الراهنة على المسنين

نظرا للتحولات التي مست طبيعة الأسرة المغربية، أشار تقرير وطني حول “مجهود المملكة المغربية في مجال رعاية الأشخاص المسنين” أشرفت عليه الوزارة الوصية على هذا القطاع، أن أكثر من 93% من هؤلاء المسنين يعيشون علاقات منتظمة معه أبنائهم في مقابل 7% يعيشون في حالة عزلة، وأن أكثر من 16% منهم يتوفرون على معاش([5])، وهذه مؤشرات تؤكد أن غالبية المسنين مازالوا محاطين برعاية أسرهم، ويعيشون تحت كفالة أبنائهم وأحفادهم. خصوصا أما ضعف عدد الذين يتوفرون على معاش.

إن استحضار هذه التجربة، يفيد في معرفة الطريقة التي كانت تعيش بها الأسر، والتي كانت تضم مختلف الأجيال التي تعيش فيها؛ في ظل التعايش والخدمة المشتركة، والرعاية الكاملة، مع حفظ الأدوار في تراتبيتها الطبيعية.

في مقابل التحولات البنيوية التي مست الأسر في تركيبتها وبنيتها، أصبحت مكونات هذه الأسر تعيش انفكاكا كبيرا على مستوى القيام بالوظائف التقليدية لمختلف الأجيال داخل الأسرة الواحدة، بحيث تم تهميش دور الجد وكبير السن، وفي أحيان كثيرة التقليل من دوره، والإساءة إليه.

وبخصوص الأسباب والعوامل التي أدت إلى تراجع دور الاهتمام بالمسنين، فقد أرجع تقرير حول مجهود المملكة المغربية في مجال رعاية الأشخاص المسنين هذه الأسباب إلى تراجع مفهوم الأسرة الممتدة في مقابل نموذج الأسرة النووية، بحيث أصبح اليوم هذا النوع الأخير يشكل أكثر من 60% من مجموع الأسر المغربية، والذي ارتبط بفعل التحولات الكبيرة التي عرفها المجتمع المغربي، على مستويات عدة، بالخصوص في تزايد عدد السكان، والهجرة القروية، وارتفاع نسبة المتعلمين وتعدد القطاعات الإنتاجية، ومشاركة المرأة في الحياة العامة، وتحول المجتمع من مجتمع قروي إلى مجتمع يسير في اتجاه التحضر، وانتشار الاستهلاك، مع انتشار تدريجي للثقافة الفردانية([6]).

إن حاجة المسنين إلى الرعاية الاجتماعية، ودفء الأسرة، تبقى قائمة  للنظر في حاجاتهم والعمل على تلبيتها والمساهمة في تأهيلهم والتخفيف من معاناتهم، والعمل على دمجهم في المجتمع والحياة العامة؛ من أجل تحقيق مجتمع متضامن ومتكافل، يكون بذلك كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

والحمد لله رب العالمين.

[1] شقير محمد، تطور الدولة في المغرب من القرن الثالث ق/ م إلى القرن العشرين، الطبعة الثانية، افريقيا الشرق 2006، ص: 319.

[2] فاطمة نافع، (مقالة: أثر الأسرة البدوية في بناء المجتمع المغربي)، الأسرة البدوية في تاريخ المغرب، مؤلف جماعي، منشورات مجموعة البحث في تاريخ البوادي المغربية، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 2 كلية الآداب والعلوم الإنسانية القنيطرة، تنسيق البيضاوية بلكامل، ط/1، 2006، ص:181.

[3] فاطمة مسدالي، (مقالة: الأسرة القروية بين الماضي والحاضر، الأسرة الدكالية نموذجا)، الأسرة البدوية في تاريخ المغرب، مؤلف جماعي، منشورات مجموعة البحث في تاريخ البوادي المغربية، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 2 كلية الآداب والعلوم الإنسانية القنيطرة، تنسيق البيضاوية بلكامل، ط/1، 2006، ص:147

[4] فاطمة مسدالي، (مقالة: الأسرة القروية بين الماضي والحاضر، م.س.ذ، ص:148

[5] تقرير وطني صادر عن وزارة التضامن والأسرة والتنمية الاجتماعية حول مجهود المملكة المغربية في مجال رعاية الأشخاص المسنين منشور بالموقع الالكتروني الرسمي للوزارة ص: 7

https://www.social.gov.ma/sites/default/files/rapport_realisation_maroc_PA.pdf

[6] تقرير وطني صادر عن وزارة التضامن والأسرة والتنمية الاجتماعية حول مجهود المملكة المغربية في مجال رعاية الأشخاص المسنين منشور بالموقع الالكتروني الرسمي للوزارة ص:8.

https://www.social.gov.ma/sites/default/files/rapport_realisation_maroc_PA.pdf

الدكتور صالح النشاط

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى