بنلحسن يكتب: هل تحمى اللغة العربية بالعاطفة فقط؟

ما أكثر حماة اللغة العربية الفصحى، في وطننا العربي من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج، مرورا بمشرقنا العربي؛ ولكن جهود الغيورين على الضاد، تصرف كلها على الدفاع والحماية؛ ولا يتصدى لمشاريع تطوير اللغة العربية الفصحى، والارتقاء بمعجمها ونحوها وصرفها وتركيبها ودلالاتها، إلا قلة قليلة في وطننا العربي؛ من خلال المؤسسات البحثية النظرية والتقنية، ومراكز الدراسات ومختبرات هندسة اللغات الطبيعية. إننا لا نبخس حماة اللغة العربية الفصحى حقوقهم وجهودهم، ولكننا نشدد على وجوب تظافر الجهدين معا وهنا لابد من التساؤل، هل استغللنا جيدا ازدياد الطلب الخارجي الأجنبي على تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها؟

لماذا لا نهتم بالأعداد الهامة والمتزايدة، التي تأتي للعالم العربي والإسلامي من أجل تعلم اللغة العربية الفصحى؛ وذلك بتطوير مناهج تعليمها وتعلمها؟ لماذا لا نستثمر اتجاه قنوات فضائية وتلفزية عالمية، مثل قناة فرانس 24، وروسيا اليوم، وبي بي سي اللندنية، وقناة الصين العربية، إلى البث باللغة العربية الفصحى، من أجل التمكين للغة العربية عالميا؛ بفضل هذا الانتشار الفضائي الواسع؛ الذي تمنحه لنا تلك القنوات الأجنبية مجانا وبدون مقابل؛ عبر الأقمار الاصطناعية في العالم وعبر جميع قاراته؟

إن استراتيجية مطوري اللغة العربية اليوم، يجب أن تكون مغايرة من حيث الشكل والكيف، عن تلك التي ينتهجها حماة اللغة العربية في وطننا العربي؛ حيث لا حاجة لهم في اعتقادي، لمعاداة اللغات الأجنبية، لاسيما تلك التي تصنف بكونها من اللغات الحية. إن خطة عمل فرق التطوير والارتقاء باللغة العربية اليوم، لاسيما في مختبرات هندسة اللغة العربية رقميا، وباعتماد الحواسيب والبرمجيات الذكية والمتطورة، يجب أن تستفيد من التقنيات الحديثة المستعملة في تطوير اللغة الإنجليزية على سبيل المثال؛ باعتبارها اللغة العالمية الأولى من حيث الرواج والانتشار في المعمور؛ كما أنها اللغة الرسمية الأولى في هيئة الأمم المتحدة. بالإضافة إلى الانفتاح على اللغات الأجنبية الأخرى الأكثر انتشارا، مثل الصينية والإسبانية…

هناك ضرورة ملحة لإجراء الفصل بين جمعيات الدفاع عن اللغة العربية وحمايتها، وبين مؤسسات البحث العلمي والتقني من أجل تطوير هذه اللغة؛ والنهوض بها لسانيا ونحويا وصرفيا ودلاليا وتداوليا وحاسوبيا

إن توجه الطلبة والباحثين والديبلوماسيين والسياح الأجانب لعالمنا العربي من أجل تعليم اللغة العربية وتعلمها، يجب أن يعجّل من وتائر أبحاث فرق التطوير والارتقاء باللغة العربية الفصحى، – كما أسلفنا- في ضوء المناهج الحديثة والمتطورة والناجعة في تعلم اللغات العالمية؛ من أجل تيسير عمليات التعلم والتعليم، وتشجيع الطلاب والوافدين على الاستزادة والنهل من معين الثقافة العربية الغنية والمتنوعة والتاريخية… إن هذا الفصل المنهجي، بين كيفية تدبير الدفاع عن اللغة العربية في وجه خصومها ومناوئيها، وبين جهود التطوير والتيسير، ضروري وهام للغاية؛ من أجل عدم الخلط، ودرءا لكل لبس أو تعطيل للمشاريع العلمية الرصينة…

فعلا على أرض الواقع، تنحو بعض الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني، نحو المزج بين فعل الحماية، وسلوك منهج التطوير والارتقاء باللغة العربية؛ تعليما وتعلما ونطقا وتواصلا؛ لكنها في الحقيقة، لا تحقق كثيرا من الأهداف المرجوة من جهة قواعد العلم وقوانينه الصارمة… لا جدال في أن سلوك المنافحة والحماية المتوجه نحو اللغة العربية ومن أجلها؛ يمكنه أن يختلط بكثير من العواطف الجياشة اتجاه هذه اللغة الفصيحة والتاريخية التي تذكرنا بديننا ووحينا؛ وهو الأمر الذي ينقل رسالة غامضة للآخر الذي نريد تيسير اللغة العربية له ليتعلمها ويتواصل بها؛ حيث سيتصور اختلاط فعل تجويد التعلم والتعليم الذي هو مجهود علمي صرف، مع فعل الدفاع عن اللغة الذي هو سلوك انفعالي عاطفي؛ وليس دائما بالمعنى السلبي القدحي…

من هنا؛ أرى ضرورة ملحة لإجراء الفصل، وإقامة التمييز، بين جمعيات الدفاع عن اللغة العربية وحمايتها، وبين مؤسسات البحث العلمي والتقني من أجل تطوير هذه اللغة؛ والنهوض بها لسانيا ونحويا وصرفيا ودلاليا وتداوليا وحاسوبيا… إن جمهور المؤسستين؛ المخاطب والمستهدف؛ متباين في نهاية المطاف؛ سواء من حيث المقاصد والأهداف، أو من حيث المضامين والرسائل المرغوب توجيهها إليه. فإذا كان حماةُ اللغة العربية الفصحى المنافحون عن موقعها التاريخي والحضاري والديني، يرون في الآخر، المختلف معهم تصورا أو تفكيرا ونطقا وتعبيرا، حول مستقبل هذه اللغة، ورواجها، واستعمالها في التعليم والتعلم والإعلام وفي الأسرة والحي والقبيلة والعشيرة، خصما وغريما، يجب تبكيته وإفحامه، لاسيما إذا كان من الطاعنين المغرضين؛ فإن العلماء المطورين لنسق اللغة العربية اللساني؛ لا يأبهون بتمثلات الآخر حول هذه اللغة، وحول تاريخها والناطقين بها؛ وجميع الحيثيات والملابسات…لماذا؟

لأن هاجسهم الأول؛ يكتسي طبيعة علمية بحثة؛ لا يناقش زيدا أو عمرا؛ في فكره وتمثلاته القبلية، وأحكامه المسبقة المترسبة، فضلا عن السؤال حول جنسه أولسانه ولسان آبائه وأجداده… إن الغاية المثلى لفريق التقنيين المطورين هو تجديد قواعد اللغة العربية، لامحوها أو تجاوزها؛ ولكن من أجل انتقاء أنسبها وأكثرها ملاءمة للسياقات التواصلية التي يمكن أن يوضع بها الفرد الناطق المتعلم لها… ولا جدال في أن هذا التطوير العلمي، سيسترشد بالتكنولوجيا الرقمية الحاسوبية؛ التي ما عادت فرض كفاية بالنسبة للباحثين المشتغلين بهذا المجال؛ بل إنها فرض عين على من أراد منهم أن يحلق في سماء البحث العلمي التطويري للنسق اللساني للغة العربية الفصحى…

وإذا أخذنا على سبيل المثال، مسألة تعليم الأجانب الوافدين على عالمنا العربي، اللغة العربية العامية؛ المنتشرة في سائر أقطارنا العربية… فلا جدال في أن فريق الحماة والمدافعين عن الضاد، سيقولون إن الذين يعلِّمون العامية مكان الفصحى، يستهدفون اللغة العربية؛ التي يرى بعضهم أن لها جوانب من التقديس الواجب بحكم علاقتها بالوحي والدين؛ لكن الباحثين والخبراء في تطوير اللغة العربية الفصحى؛ قد لا يتفقون مع الحماة في التوصيف؛ لماذا؟  لأنهم يرون في ميل المؤسسات التعليمية للغة العربية للناطقين بغيرها نحو العامية في التدريس والتعليم، نوعا من التوافق مع المجتمع ومع الواقع…

أتذكر هنا قصة رواها لنا أستاذ باحث كان يعلم الطلبة الصينيين اللغة العربية الفصحى في إحدى الجامعات المغربية؛ ولكن أحد الطلبة الأجانب؛ حين جرب استخدام اللغة الفصحى المعيارية التي تعلمها في الجامعة، سرعان ما تعرض للسخرية والضحك في السوق؛ لماذا؟ لأنه لم ينتبه إلى أن اللغة الفصحى لا تستعمل بشكل كامل في التواصل اليومي في الشارع؛ وذلك بسبب استعمال الناطقين العاميات المغرب.

الدكتور محمد بنلحسن

عن: مدونات الجزيرة.نت

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى