المقاصد قبلة المجتهدين – عثمان كضوار

المقاصد قبلة المجتهدين، عبارة نقلها السيوطي وغيره عن الإمام الغزالي، وهي لا شك تترجم الدور الأساس والخطير الذي يؤديه الدرس المقاصدي داخل المنظومة الاجتهادية، فعلم المقاصد لا يخلو من المجالات التي يشتغل عليها وضمنها المجتهدون، سواء تلك المرتبطة بالمجال الإنشائي، أي الأحكام الجديدة التي لم يسبق فيها نص، أو ما يتعلق بجانب الترجيح بين النصوص عند التعارض – أو ما يظهر من خلالها التعارض- ، أو عندما يتعلق الأمر بفهمها وفق مراد الشارع ، وكذلك الحاجة عند تنزيل النصوص الشرعية وتطبيقها حتى لا ينحرف الحكم عن مقصده.

لا ننكر أن هذا المنهج قد اعتمده الصحابة ابتداء وإن لم يظهروه كعلم، لكن مارسوه فعلا وتطبيقا في عدد كبير من المسائل التي طرأت عليهم، من ذلك مسألة جمع القرآن في عهد أبي بكر  يتضح ذلك من الحديث الصحيح الذي روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وكان من كتاب الوحي، قال فيه: “أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر ، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامةِ بالناس، وإِنِّي أخشَى أن يستَحرَّ القَتْلُ بالقرّاءِ في المواطن، فيذْهبَ كثيرٌ من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمعَ القرآن”. قال أبو بكر: “قلتُ لعمرَ: كيفَ أفعلُ شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم”.   فقال عمرُ: هو واللهِ خيرٌ. فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت: وعمر عنده جالسٌ لا يتكلم، فقال أبو بكر: “إنك رجلٌ شابٌ عاقلٌ ولا نتهمك، كنتَ تكتبُ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبلٍ من الجبال ما كانَ أثقلَ عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن”. قلتُ: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو بكر: هو والله خيرٌ”.

يعلق ابن عاشور رحمه على هذا الكلام قائلا : ” فقول عمر : هو والله خير ، ثم انشراح صدر أبي بكر نعلم منه أنه من المصالح، لأن الخير مراد به الصلاح للأمة، وقول أبي بكر وزيد بن ثابت لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نعلم أنه مصلحة مرسلة ليس في الشريعة ما يشهد لاعتبارها ، وقد اجمع الصحابة على اعتبار ذلك” – مقاصد الشريعة الإسلامية ص 84.

كما يرى ابن عاشور أن ذلك من المصلحة العامة، حيث ” حفظ القرآن من التلاشي العام أو التغيير العام بانقضاء حفظه وتلف مصاحفه معا ” – نفسه ص 84.

فما ذهب إليه أبو بكر وبعده عمر وزيد هو وجه من وجوه اعتبار المقاصد في إنشاء أحكام جديدة.

وقد راعى كذلك المجتهدون من الصحابة الجانب المقاصدي في تنزيل الحكم من منطلق مراعاة محل الحكم – الواقعة-، ولذلك نجد البعض منهم قد خالف أحكاما صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق المقصود في زمانهم، من ذلك التغيير الذي طرأ في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه  في صيغ ألفاظ الطلاق التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد في صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم” .

فيرى عمر رضي الله عنه أن ذلك مظنة لأن يستعجل الناس حيث أحوالهم تغيرت، وليس في ذلك اختلاف للأحكام، بل في اعتبار محل الحكم، فإذا اختلف محل الحكم، لابد وأن يختلف الحكم كذلك، فلا نقول بتغير الحكم، لأن الحكم في عهد الرسول صل الله عليه وسلم ليس هو الحكم الذي كان في عهد عمر بن الخطاب نظرا لاختلاف محل الحكم أي الواقعة التي سينزل عليها الحكم.

ومن الأمثلة التطبيقية في استحضار المقاصد وجعها قبلة للمجتهدين، الاختلاف داخل المذهب نفسه باستحضار الواقعة مع مراعاة فقه الواقع ، من ذلك مخالفة ابن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة في فقه المالكية أحد تلاميذ الإمام مالك في مسألة اتخاذ الكلاب للحراسة، حيث كره الإمام ذلك، فابن أبي زيد  انهدم حائط بيته، وكان يخاف على نفسه من شر بعض الطوائف في زمنه خصوصا الشيعة، فربط في موضعه كلبا اتخذه للحراسة، فقيل له: إن مالكا يكره ذلك ، فكان جواب ابن أبي زيد رحمه الله ” لو أدرك مالك زماننا لاتخذ أسدا ضاريا “، ذلك أن كراهة الإمام مالك لم تعد مبررة بما أصبح سائدا في زمان ابن أبي زيد القيرواني ، بل المصلحة تقتضي اتخاذ الحراسة من هذا النوع، حفاظا على النفس وحماية لها من الضرر ، وهذا مقصود من المقاصد المعتبرة التي جاءت الشريعة تصونه وتدافع عنه.

فاختلاف محل الحكم يلزم اختلاف الحكم، ولهذا قيل ” “حكم الشيء مع الحاجة يخالف حكمه مع عدم الحاجة”.

ومن مستلزمات الاجتهاد كذلك أن يراعي المجتهدون المقاصد في مجال تفسير النصوص الشرعية ، سواء كانت آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ” عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة الباهلي قال : -ورأى سكة وشيئًا من آلة الحرث-: فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل) وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى آلة تسمى ” السكة ” تستعمل في الحرث ، فظاهر الحديث يفهم من خلاله عدم الانصراف إلى الاشتغال بالحرث أو الزراعة أو نحوهما  تفاديا جلب المذلة، وإنما البعد المقاصدي من ذلك ؛ عدم استفراغ الجهد بذلك كله وإهمال الجهاد حينها، فتضعف شوكة المسلمين فينتصر الكفار عليهم، فأي ذل بعد هذا، لذلك قال ابن بطال في كتابه ” شرح صحيح البخاري ” : لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها، فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة”.

فإذن قصد صلى الله عليه وسلم من خلال ظاهر الحديث النبوي ليس النهي عن الفلاحة والزراعة وإنما المقصود عدم الانشغال لدرجة ينسيهم الدفاع عن دينهم ووطنهم ، فذلك أولى بالعناية والاهتمام .

حاصل القول أن علم المقاصد يجمع ولا يفرق، ويضم شتات الفهم وما يتفرق في الأذهان، فهو علم يهتم بمعاني الشريعة أولا، بقدر اهتمامه بأسرارها، غايته في ذلك اعتبار قوام أمر الأمة بتعبير الطاهر ابن عاشور، واعتبار تعلق هذا العلم بعموم الأمة أو بجماعتها أو أفرادها.

يتبع…

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى