الحج المبرور .. حكم وأسرار

يستعد من نوى الحج لأداء مناسكه، وقد امتلأ الحرم وفجاج مكة بالحجاج الذين توافدوا من سائر الأقطار، لتبدأ رحلتهم في المشاعر المقدسة وتمتلئ بهم منى ملبين ومكبرين، وأهل الأمصار يعيشون معهم بقلوبهم، ويرمقونهم عبر الشاشات بأبصارهم، فكم من أعين تفيض بالدمع، وكم من ألسن تتمتم بالدعاء، وكم من قلوب تتفتت شوقا إلى البيت الحرام، وحسب المنقطع عن ذلك بعذر شوقه إليه، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في غزوة تبوك: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» رواه مسلم.

هذا؛ وليس كل حاج حاجا، ولا كل معتمر معتمرا؛ فللعبادة شروط وأركان وواجبات يجب إتمامها، ولها روح لا بد أن تكون حية بها، وروحها الإخبات والخشوع، ولها مقاصد لا بد للقاصد من تحقيقها، فيكون حاله بعد العبادة خيرا من حاله قبلها.

والملاحظ في أحاديث الحج وصف كماله بالبر، وترتيب الجزاء الأعلى على كون الحج مبرورا، فما هو الحج المبرور؟ وما فضله وجزاؤه؟

فأما فضله وجزاؤه فجاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» رواه الشيخان. وفي حديث آخر قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «…الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» متفق عليه. وقَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» رواه البخاري. فهذا شيء من فضل الحج المبرور، وأما صفته وبلوغه وتحقيقه فيكون بأمور عدة:

أولها: الإخلاص لله تعالى؛ ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]، فلا يكون الباعث على حجه الرياء والسمعة. ويكثر الرياء في الحج لأنه عمل ظاهر، وشعيرة كبيرة، والناس يتحدثون فيه، ويتناقلون صور الحجاج الثابتة والمتحركة، ووسائل الإعلام مجتمعة على نقله وإشهاره. وإذا كان يحج لأجل غرض دنيوي مادي أو معنوي لم يكن حجه لله تعالى، قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: «ما أكثر الحاج! فقال ابن عمر: ما أقلهم! ثم رأى رجلا على بعير على رحل رثٍّ خطامه حبال، فقال: لعل هذا». وقال شريح رحمه الله تعالى: «الحاج قليل والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير، ولكن ما أقل الذين يريدون وجهه». وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» رواه مسلم.

وثانيها: إتمام النسك على وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن فرط في أداء النسك، وأخل بشروط الحج أو أركانه أو واجباته لم يكن حجه مبرورا، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس في حجته أن يأخذوا عنه المناسك، وما ذاك إلا ليعملوا بها وينقلوها إلى من بعدهم، وقد بلغتنا المناسك كاملة تامة بتمام الدين وكماله، فوجب علينا الإذعان والانقياد والامتثال.

وثالثها: أن يحج بمال حلال؛ لأن المناسك قربة لله تعالى، والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، والمناسك أعمال وأذكار ودعاء، ويخشى من ردها إذا كان صاحبها يستعين بنفقة محرمة على أدائها، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل: «يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» رواه مسلم.

ورابعها: أن يحذر من الرفث والفسوق والجدال أثناء أداء النسك؛ فإنه منصوص على اجتنابها لمن تلبس بالنسك ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197] وقد رتب على ضبط النفس عن هذه المحرمات مغفرة ما مضى من الذنوب والآثام، وذلك من أعظم الجزاء؛ كما قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» متفق عليه.

وخامسها: الاجتهاد في أعمال الخير المحضة كالصلاة والذكر والدعاء، وما تعدى نفعها كإطعام الطعام، وسقي الماء، ودلالة التائه، وإرشاد الجاهل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبذل أنواع الإحسان؛ وذلك لأن الله تعالى لما نهى عن الرفث والفسوق والجدال حرّض سبحانه على فعل الخير فقال ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].

إن للحج من الحكم والأسرار والمنافع النصيب الأكبر والقدر العظيم، قال جلا وعلا ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 27، 28]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله جلا وعلا وأما منافع الدنيا فيما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات).

فمن معاني الحج السامية ودروسه العظيمة التلبية التي يرددها الحاج من حين إحرامه إلا حين يرمي جمرة العقبة وتله جبها الألسنة في مواقف كثيرة ولا تمل من تردادها وترطيب الأفواه بها، وفي هذه التلبية النبوية الكريمة تذكير للأمة بأعظم ما يجب أن تهتم به وتحافظ عليه وتغرسه في النفوس وتثبته في العالمين وتسير عليه في أعمالها كلها وتستشعره في عبادتها جميعها، ذلكم هو تحقيق التوحيد لله تحقيق الغاية القصوى من خلق الإنسان واستخلافه في هذه الأرض أن الله تعالى يقول ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾، ويشرع للحاج أن يردد (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعم تلك والملك، لا شريك لك ) استجابة لله بعد استجابة وتبرؤ من الشرك وأهله وإقرار بالربوبية والألوهية وحمد له على نعمة الهداية للإسلام، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: (لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) إنه تذكير للأمة جميعاً أن يستحضروا ما عقدوا عليه قلوبهم من توحيد الله رب العالمين، إنه توجيه لهم أن يجعلوا حجهم لله وحده، ويخلصوا له العمل دون سواه، ومن ثم فلا يسألون إلا الله، ولا يستغيثون إلا بالله ولا يتوكلون إلا على الله ولا يطلبون العون والمدد ولا يلتمسون النصر إلا من عند الله مستيقنين أن الخير كله بيد الله، ومرجع الأمور كلها إليه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد، وحين يكون من المسلمين يقين بذلك وتمسك به فليبشروا بالأمن والهداية والتوفيق ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].

ومن معاني الحج الكريمة ودروسه البالغة أن تعلم الأمة وتستيقن أنه لا سعادة لها ولا نجاح ولا توفيق ولا نصر ولا تمكين في هذه الحياة ولا فلاح ولا فوز في الآخرة إلا بإتباع سيد المرسلين وخاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والتسليم الأمة، المسلمينوالسير على نهجه والثبات على هديه في الاعتقاد والأعمال والرضا بما جاء به في الحكم والتحاكم، والاقتداء به في الأخلاق والسلوك وقد كان صلى الله عليه وسلم في كل خطوة في حجته يؤصل هذا المعنى الكبير في نفوس المسلمين ويغرسه في قلوبهم ويرسخه حيث كان يقول عند كل منسك من مناسك الحج (خذوا عني مناسككم)، وهو الذي قد قال (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

ومن المعاني العظيمة في الحج أيضا لزوم الاعتدال والتوسط في الأمور كلها، ومجانبة الغلو أو الجفاء، والحذر من الإفراط أو التفريط، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته (القط لي حصى)، فلقطت له سبع حصيات هن حصى القذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول: (أمثال هؤلاء فارموا) ثم قال (يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، فالاعتدال مطلوب في الأمور كلها، والتوسط محمود فيها جميعها والبعد عن الغلو والجفاء هو المنهج القويم والصراط المستقيم الذي ينبغي أن يسلكه جميع المؤمنين وذلك ليس بالأهواء ولا الرغبات والمشتهيات وإنما يكون بالأخذ بحدود القرآن وآثار السنة والسير على ما فيها من الهدى والبيان ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].

ومن معاني الحج العظيمة وجوب تعظيم الشعائر والحرمات ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30]، ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]، فتعظيم الشعائر والحرمات من تقوى القلوب وخشيتها لخالقها ومولاها وكلما خلا قلب من ذلك كان أبعد ما يكون من تعظيم حرمات الله والوقوف عند حدوده، ولهذا كان خير زاد يحمله الحاج وأعظمه وأكمله زاد الخشية والتقوى، قال جلا وعلا ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، ولباس البياض يشعر بوجوب نقاء القلب والفكر والعقل من أي علل وأمراض وسلامة الجوارح من كل ما يغضب المولى جلا وعلا.

ومن معاني الحج والأصول المعتبرة فيه ما يظهر في رمي الجمار فيه من تذكير بني آدم بألد أعدائهم وأعتى خصومهم وتحذيرهم من قائد اللواء إلى النار، قال عز وجل ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].

ومن معاني الحج السامية: تذكير المسلمين بأن المسلمين أمة واحدة ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾، وما تسلط عليه أعداؤها إلا بعد أن تفرقت وتشرذمت، فاستطاع العدو أن يأكل من الغنم القاصية، فاحتلت أرض الإسراء والمعراج وذاق أهل فلسطين خلال سبعين سنة على أيدي اليهود صنوف العذاب وانتهاك حقوق الإنسان، في صمت دولي وعجز عربي وإسلامي، ناهيكم عن وضع سوريا والعراق واليمن وأهل السنة في إيران ولو كان المسلمون أمة واحدة لسعى بذمتهم أدناهم ولهابهم كل عدو وحاقد.

منقول من خطب عن الحج (بتصرف)

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى