من مكارم الشريعة وإضاءات السيرة النبوية: حفظ الأسرار

حديثُنا في خطبة اليوم سنخصصه لجانب هام من جوانب السيرة النبوية، ومكرمة عظيمة من مكارم الشريعة الإسلامية،ألا وهو موضوع أمانة الأسرار، فقد أخبر الحق تعالى أن من مكارم الأخلاق ومن شيم أصحاب الذوق السليم و الحس المرهف عدم إفشاء ما يجري بين الزوجين .. إذ لا يفشيه إلا أصحاب القلوب المريضة والعقول الفارغة، فالعلاقة الزوجية علاقة يؤتمن فيها الزوجان على أسرار بعضهما، قال تعالى:”فَاْلصَّلِحَتُ قَنِتَتٌ حَفِظَتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ”(النساء34) أي حافظات لما يجري بينهن وبين أزواجهن مما يجب كتمه وسِترُه.

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى غضبه لنبيّهﷺ، مما أتت به بعض أزواجه من إفشاء السرّ إلى صاحبتها، ومن تظاهرهما على ما يقلق راحته:”وإذ أسر النبيء إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض، فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا؟ قال نبأنيَ العليم الخبيرإن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير”، والمتظاهرتان عليه في الآية هما:أما المؤمنين عائشة وحفصة رضي الله عنهما أسر ﷺ إلى إحداهما أنه حرم على نفسه العسل، وقيل: إنه حرم على نفسه جاريته مارية، وقال: لا تُخبري بذلك أحدا، فأفشت سره إلى الأخرى. فأنزل الله تعالى الآيتين، وجعل إفشاءهما لسر رسوله جُرْما ينبغي المسارعة إلى التوبة منه، وهكذا أدبهما الله تعالى بهذا الأدب الجم فأحسن تأديبهما.

وهذه السيدة فاطمة الزهراء صلى الله وسلم على أبيها ورضي الله عنها تضرب المثال الحسن و القدوة الصالحة في كتمان السر وعدم البوح به: فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: اجتمع نساء رسول الله ﷺ لم يغادر منهم امرأة في وجَعِه الذي مات فيه، وما رأيت أحداً أشبه سَمْتاً وهدياً ودَلاًّ ( الدَّلُّ:المرأة) برسول الله ﷺ في قيامها وقعودها من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها، وقبلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك. فلما مرض ﷺ جاءت تمشي ما تُخطئ مِشيتُها مِشية رسول الله ﷺ فقال: مرحباً يا بنتي. فأجلسها عن يمينه، أو عن شماله، فأكبَّت عليه تُقبِّله، فسارَّها بشيء، فبكت، ثم سارَّها فضحكت. فقلت: ما رأيت اليوم فرحاً أقرب من حزن،فسألتها عن ذلك، قلت لها:ما خصك رسول الله ﷺ بالسِّرَار وتبكين؟ فلما أن قامت قلت لها: أخبريني بما سارَّك؟ قالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله ﷺ فلما أن توفي قلت لها: أسألك بما لي عليك من الحق لـَمَا أخبرتيني قالت: أما الآن فنعم، سارَّني فقال: إن جبريل كان يُعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني العامَ مرتين، وإنه لم يَكُن نبي كان بعدَه نبيّ إلا عاش بعده نصفَ عُمْرِ الذي كان قبلَه، ولا أرى ذلك إلا اقترب أجلي. وفي لفظ: فقالت: إنه أخبرني أنه يُقبض في وَجَعِه، فاتقي الله واصبري، إن جبريل أخبرني أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رَزِنَةً منك،(من الرزانة أي الثبات والوقار) فلا تكوني أدنى امرأة منهن صبراً، فنِعْمَ السَّلَفِ أنا لك، فبكيتُ. ثم سارَّني فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة.وفي لفظ: «أخبرَنِي أني أولَ أهلِه لُحوقاً به، فضحكتُ ضحِكي الذي رأيت” (عن الخمسة، والطبراني، وابن حبان، والحاكم).

وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يُعرب عن ذوقه الرفيع و حِسِّه المُرهَف وعن أمانته في حفظ سر رسول الله ﷺ: فعن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حين تأيمت حفصة (أي مات زوجها ) قال عمر: فأتيت عثمان بن عفان فعرضتُ عليه حفصة، فقال : سأنظر في أمري، فلبِثتُ لياليَ ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا.قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئتَ زوجتُك حفصة بنتَ عمر، فصمَتَ أبو بكر فلم يرجع إليَّ شيئا. وكنت أوْجَدَ عليه مني على عثمان . فلبِثتُ لياليَ، ثم خطبها رسول الله ﷺ فأنكحتُها إياه. فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدتَ عليَّ حين عرضتَ عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا ؟ قال عمر: قلت: نعم . قال أبو بكر : فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضتَ عليَّ إلا أني كنت علمتُ أن رسول الله ﷺ قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله ﷺ ، ولو تركها قبلتها ” .

وهذا الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه كان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي لا يعلمه غيره، و لم يفشه لأحد فقد أسَرَّ إليه أسماءَ المنافقين، وكان الصحابة لا يعلمون عن المنافقين غير العلامات الظاهرة من قوله عليه الصلاة والسلام “آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان” وأما حذيفةُ فيعرفهم بأسمائهم بالتعيين، ولذلك كان عمر بن الخطاب إذا وضعت جنازة لا يصلي عليها حتى ينظر ما يفعل حذيفة، فإن صلى عليها حذيفة صلى وإلا لم يصل عليها.

وهذا الإمام علي رضي الله عنه كان ذا علوم غزيرة وأسرار كبيرة لكن لا يُظهرها لغير أهلها خشية الفتنة، وقد أومأ إلى ذلك عندما قال ـ وأشار إلى صدره ـ إن ههنا علوما جمة لو وجدت لها حَمَلة .

وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول:(حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ : فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثـْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثـْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ ) رواه البخاري .

فاتقوا الله عباد الله و اعلموا أن العاقل الأوْلَى به أن يكون سرُّه وعلانيتُه سواءً فلا يفعل في غَيبتِه عن الناس ما يسوؤه أن يطَّـَلِعَ عليه الناس، لأنه وإن غاب عنهم فإن الله عليه شهيد، وأن يعلم أن سره ما دام بين حنايا صدره فهو أمير نفسه، فإن اطلع غيرُه على سرِّه خرج الخيارُ من يده وأصبح الخيار لغيره، وإن لم يكن له بدٌّ من أن يُحمِّلَ أحدا سرَّه ، فلا يبثـَّهُ إلى كل أحد، فإنه كما قيل “لسان العاقل في قلبه، وقلبُ الأحمق في فمه “.

نفعني الله وإياكم بالذكر الحكيم وكلام سيد الأولين والآخرين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

ذ. سعيد منقار بنيس

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى