فتنة الحرية – الزهرة الكرش

أنا حر، كلمة ترددها كثيرا. فهل وقفت عندها يوما؟ هل تساءلت عن معناها؟ هل تساءلت ماذا تمثل لك؟ عن أي حرية تتحدث؟ هل الحرية هي أن تقلد الآخر في مشيته، وهيئته وتسريحة شعره؟ هل الحرية هي أن تستمتع بلا حدود؟ هل الحرية هي أن تطلق العنان لنفسك للتلذذ بمتع الحياة إلى أقصى حد ممكن؟ هل الحرية أن تتمرد على كل الأعراف والتقاليد وتتهمها بالرجعية؟ هل الحرية أن تعيش بلا قيود؟

ولنتقدم بالسؤال إلى الأمام ، وأنت على ما أنت عليه هل تعتقد أنك حر؟؟؟ أعتذر سأجيب مكانك لأنك ربما لن تستطيع الاعتراف بأنك تعيش قمة العبودية. عبودية تسلبك أعز ما لديك “عقلك”، لأنها لا تترك له المجال للتفكر ولا تعطيه الحق في الانتقاد. عبودية تجعلك تعيش على الهامش لأنك تعيش بهوية غير هويتك. تعيش على الهامش لأنك ملك لغيرك يحركك أنى شاء، يتحكم فيك وفي كل ما تملك، حتى أفكارك وأحاسيسك وتطلعاتك في الحياة هي ملك له. كل تفصيلة في حياتك ليست ملكك لأنها ليست على مقاسك وليست من صنع أفكارك ومن عمق اختياراتك. فهل لازلت تعتقد أنك حر؟؟

قد نتفق أو نختلف في وضع تعريف مشترك للحرية لكننا لن نختلف على أنها خلاف العبودية، فأنت حر ما دمت خارج إطار الاستعباد والاستيلاب.

أعتذر مرة أخرى إن أخبرتك أن الحرية تعاش عندما تحس أنك خارج خارطة طريق أي كان، وأن جهاز التحكم الخاص بك ليس ملكا لأحد، فلا يفرض عليك شكلا معينا أو تقليعة معينة أو لباسا معينا. أنت حر عندما يتحرر فكرك، فيسبح خارج تيارات أو سياقات توجهك كيف تشاء فأنت لست تابعا لأحد. أنت حر عندما تنسجم روحك مع عقلك، وتعيش إنسانيتك الحقيقية. أنت حر عندما يكون لك الحق في  الاختيار ولا يكون لأي كان الحق في ممارسة الوصاية عليك حتى وإن كان فهما خاطئا موروثا تعارف عليه الناس. الحرية هي الحياة، وما الحياة إلا فكر و روح مجردين من كل الأغلال.

“إِذْ قَالَتِ امْرَأَة عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا”، تخرج من بطن أمك حرا، محررا من كل ما يقيد فكرك وعقلك وروحك، فكتاب الله يقر بحريتك منذ النشأة الأولى، حرية أعطتك الحق الكامل في الاختيار، حرية قادتك إلى اختيار ما لم يستطع أن يختاره أحد من خلق الله (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ)، يعرض عليك سبحانه الأمانة ويعطيك حق القبول وحق الرفض لأنه خلقك حرا. فكيف ترضى لنفسك أن تسلب أعز ما وهبك خالقك سبحانه؟

ونعرج إلى المدرسة الإبراهيمية، مدرسة التحرر كما يصفها الدكتور عماد العبار في كتابه “قصة الحرية بين النص القرآني والتطبيق التاريخي للإسلام”، فعلا إن ابراهيم كان مدرسة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)، كان أمة لأنه رفض كل القيود، كان مدرسة  للتحرر الفكري والعقدي لأنه لم يقبل أن يكون عبدا للموروث بل عرف أن حريته في أن يكون عبدا لله الذي وهبه الحياة وسخر  له ما في السماوات وما في الأرض. عبدا لإله يحترم إرادته ويقرها فهو من خلقها وسواها وهو القائل ” لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”.

إبراهيم تحرر من عبادة ما ألفى عليه أباه وقومه ليؤكد حقيقة أقرها الله عز وجل، أنه لا إكراه في المعتقد ولا يمكن أن نبلغ الرشد ونصل للحقيقة بالإجبار، فالهداية حرية لا تجتمع مع إكراه. إن بلوغ العروة الوثقى والثبات عليها لا يتأتى مع الإكراه بل مع الحرية في التفكير والاختيار “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر”.

“فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا” يأوي أصحاب الكهف إلى كهفهم لقد اختاروا اللجوء إلى الكهف لأنهم اختاروا الإيمان

“إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى”، اختاروا الإيمان بكامل إرادتهم دون إجبار فزادهم ربهم هدى. ثم اختاروا  الكهف هروبا ممن يريد ان يسلبهم حريتهم، فالكهف كان بالنسبة لهم مكانا لإعلان التحرر، ضيقه كان رحابة لهم لان فيه يملكون زمام أنفسهم فلا قيود ولا تسلط ولا تبعية.

فلتبحث عن كهفك لتمارس حريتك الحقيقية وتهرب من الملاحقة “إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذا أَبَدا”، إن لم تجد كهفك ستظل مطاردا من معتقدات الآخرين وأفكارهم، ستبقى فاقدا للتوازن مهيأ لان تعود ملكا للآخر (يعيدوكم في ملتهم ، فالفلاح في أن تجد كهفك وتأوي إليه ليكون عاصما لك وحصنا لحريتك.

في رحاب الله تجد حريتك، رقيا وعروجا إلى السماء. في ثباتك على الحق ولجوئك إلى كهف إيمانك تعيش إنسانيتك الكاملة وحريتك الحقيقية. فلا تفتنك الحرية المزيفة لتصرفك عن الحرية الحقيقية وهي أن تكون عبدا لله لا لسواه.

أخبار / مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الكلام العميق و في ذات الوقت الجميل عن الحرية كلام رائع يدخل الفؤاد و يترك الكثيرين يتساءلون ما معنى الحريه و مفهوم العبودية الحقيقية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى