رعاية المسنين (ملف)

سلط باحثون الضوء على منظومة قيم رعاية المسنين في المجتمع المغربي ومدى انعكاسها على الأسرة والنسيج المجتمعي، مبرزين ارتباط مستوى إكرام كبار السن بنمط تدين المغاربة وعلاقاتهم الاجتماعية والأسرية، مسجلين التحولات على مستوى قيم التضامن وقيم التعاقد داخل الأسر. جريدة “العمق” تورد في هذا الملف الفكري، آراء وأفكار 5 باحثين ومتخصصين في المجال القيمي والديني لدى المغاربة، من خلال 7 مقالات لكل من صالح الناشط، محمد أزناك، محمد ابراهمي، مصطفى قرطاح، ومصطفى بنزروالة، حول الرعاية الاجتماعية للمسنين وتأثير تحولات الأسرة على إكرام كبار السن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تحولات الأسرة الراهنة وانعكاساتها على المسنين د. صالح النشاط

تعيش الأسرة المغربية مجموعة من التحولات العميقة والتي مست بنيتها وشبكة علاقاتها المفتوحة، وذلك بحكم التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي وقعت على نمط الحياة العامة. إن الحديث عن تحولات الأسرة يستلزم إدراك طبيعة سياق التاريخ الاجتماعي للمغرب، وذلك حينما هيْكلتِ الدولةُ ومؤسساتُها المجتمعَ من خلال إحداث شرائح اجتماعية أصبحت ترتبط بالدولة وبمصالحها، وتعيش الدولة من خلالها، وتتمثل هذه الشرائح خاصة في فئات الموظفين التي ظهرت لأول مرة في التاريخ الاجتماعي بالمغرب في فترة الحماية مع إدخال دواليب الإدارة الاستعمارية( ). فما هي طبيعة بنية الأسرة، وما أثر تحولاتها الراهنة على شريحة المسنين؟ أولا: بنية الأسرة المغربية عرفت الأسرة المغربية خلال السنوات الأخيرة مجموعة من التغيرات والتحولات أدت إلى تغير في البنية والأدوار والأجيال في الأسرة الواحدة، بحيث أصبحت الأسر غالبيتها أسر نووية، تتكون من الزوجين وأبنائهما، في مقابل الأسر الممتدة. وإلى عهد قريب، كانت الأسرة المغربية، وخصوصا التي تعيش في القرى والبوادي، تنحت جذورها في نسيج المجتمع المغربي عبر ثـلاث مستـويات( ): دائرة الأسرة المشتركة (خيمة واحدة وبيتا واحدا)؛ دائرة الفخذ (عدة بيوت يجمعها الانتساب إلى جد واحد، يعود إلى حوالي خمسة أجيال)؛ دائرة العشيرة أو القبيلة وتتألف من أربعة إلى ستة أفخاذ، واليها ينتمي جميع المنحدرين من جد واحد أو أصل واحد. وكان الارتباط العشائري والقبلي يسود العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، إلى درجة أنهم كانوا يعيشون ما يسمى بالاقتصاد المشترك وهو ما”يصطلح على تسميته محليا بـ”الميدة الوحدة” أو “الميدة المشروكة”( )، ذلك أن الأسرة القروية كانت تقوم بعدة وظائف منها: الوظيفة الاقتصادية، والتربوية، والعلاجية، والحمائية، والتضامنية والترفيهية( )، بمعنى أن العائلة أو الأسرة الواحدة كانت تحقق اكتفاء ذاتيا على أغلب المستويات؛ إلا أن التحولات العميقة التي مست كيان المجتمع بصفة عامة، والأسرة بصفة خاصة، جعل من هذه الأخيرة تفقد الكثير من مقومات اهتمامها بفئة المسنين، وزيادة منسوب الفردانية في الأسرة، مما فرض على الدولة إقامة دورا للعجزة والمسنين الذين تخلت عنهم أسرهم. ثانيا: أثر تحولات الأسرة الراهنة على المسنين نظرا للتحولات التي مست طبيعة الأسرة المغربية، أشار تقرير وطني حول “مجهود المملكة المغربية في مجال رعاية الأشخاص المسنين” أشرفت عليه الوزارة الوصية على هذا القطاع، أن أكثر من 93% من هؤلاء المسنين يعيشون علاقات منتظمة معه أبنائهم في مقابل 7% يعيشون في حالة عزلة، وأن أكثر من 16% منهم يتوفرون على معاش( )، وهذه مؤشرات تؤكد أن غالبية المسنين مازالوا محاطين برعاية أسرهم، ويعيشون تحت كفالة أبنائهم وأحفادهم. خصوصا أما ضعف عدد الذين يتوفرون على معاش. إن استحضار هذه التجربة، يفيد في معرفة الطريقة التي كانت تعيش بها الأسر، والتي كانت تضم مختلف الأجيال التي تعيش فيها؛ في ظل التعايش والخدمة المشتركة، والرعاية الكاملة، مع حفظ الأدوار في تراتبيتها الطبيعية. في مقابل التحولات البنيوية التي مست الأسر في تركيبتها وبنيتها، أصبحت مكونات هذه الأسر تعيش انفكاكا كبيرا على مستوى القيام بالوظائف التقليدية لمختلف الأجيال داخل الأسرة الواحدة، بحيث تم تهميش دور الجد وكبير السن، وفي أحيان كثيرة التقليل من دوره، والإساءة إليه. وبخصوص الأسباب والعوامل التي أدت إلى تراجع دور الاهتمام بالمسنين، فقد أرجع تقرير حول مجهود المملكة المغربية في مجال رعاية الأشخاص المسنين هذه الأسباب إلى تراجع مفهوم الأسرة الممتدة في مقابل نموذج الأسرة النووية، بحيث أصبح اليوم هذا النوع الأخير يشكل أكثر من 60% من مجموع الأسر المغربية، والذي ارتبط بفعل التحولات الكبيرة التي عرفها المجتمع المغربي، على مستويات عدة، بالخصوص في تزايد عدد السكان، والهجرة القروية، وارتفاع نسبة المتعلمين وتعدد القطاعات الإنتاجية، ومشاركة المرأة في الحياة العامة، وتحول المجتمع من مجتمع قروي إلى مجتمع يسير في اتجاه التحضر، وانتشار الاستهلاك، مع انتشار تدريجي للثقافة الفردانية( ). إن حاجة المسنين إلى الرعاية الاجتماعية، ودفء الأسرة، تبقى قائمة للنظر في حاجاتهم والعمل على تلبيتها والمساهمة في تأهيلهم والتخفيف من معاناتهم، والعمل على دمجهم في المجتمع والحياة العامة؛ من أجل تحقيق مجتمع متضامن ومتكافل، يكون بذلك كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. والحمد لله رب العالمين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تجارب حديثة في استثمار خبرات كبار السن ( نحو نظرة جديدة للشيخوخة) ذ . محمد أزناك

يقول الله عز وجل في كتابه الكريم : ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ” تبرز هذه الآية الكريمة – كما آيات أخرى كثيرة في موضوعها – إحدى سنن الله في الخلق ، وهي هذه الصيرورة التي تعيشها المخلوقات كلها في اتجاه الفناء . ويبقى الله عز وعلا متفردا بالأزلية والأبدية : ” كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) ولقد غدت الشيخوخة – بالنسبة للجنس البشري في عصرنا الراهن- من بين القضايا التي تستأثر بكثير من الاهتمام. بل إن الكثير من الدراسات والأبحاث والتقارير الرسمية تتناول هذه المرحلة الطبيعية من عمر الإنسان من قبيل الشر الذي لابد منه ، وذلك بسبب ما يرتبط بها من تحولات وتحديات ، إذ أن “شيخوخة الساكنة تؤثر في النمو الاقتصادي، وفي حجم الادخار، والاستثمار والاستهلاك، وسوق الشغل، والأنظمة الصحية والجبايات وأنماط العيش والتفاعل المتبادل بين الأجيال.” غير أن هناك اتجاها جديدا يمكن رصده من خلال عدد من المقالات والدراسات والتقارير ينظر إلى كبار السن باعتبارهم فرصة في يد المجتمعات التي تعرف هذا النوع من الانتقال الديمغرافي ، تتمثل في استثمار رصيد الخبرات التي يمتلكونها . بل وانطلقت على المستوى العالمي تجارب عملية في هذا الاتجاه. وتهدف هذه المقالة إلى الوقوف على بعض هذه التجارب و محاولة رصد لرجع صداها على مستوى العالم العربي الإسلامي عموما ، وفي بلدنا المغرب على وجه الخصوص . I. الشيخوخة في العالم : أرقام ومعطيات تشير البيانات الصادرة عن تقرير التوقعات السكانية في العالم ، إلى زيادة في عدد كبار السن الذين تتراوح أعمارهم بين 60 عاما أو أكثر بشكل كبير في السنوات الأخيرة في معظم البلدان والمناطق، ومن المتوقع أن يتسارع هذا النمو في العقود المقبلة . ففي عام 2015، وصل العدد إلى 901 مليون شخص من هذه الشريحة العمرية في جميع أنحاء العالم، أي بزيادة عالمية قدرها 48 في المائة لعدد كبار السن مقارنة بعام 2000. ومن المتوقع أن ينمو عدد الأشخاص في العالم الذين تتراوح أعمارهم بين 60 عاما أو أكثر بنسبة 56 في المائة، من 901 مليون شخص إلى 1.4 مليار شخص بين عامي 2015 و 2030. وبحلول عام 2050، من المتوقع أن يزداد عدد سكان العالم من كبار السن إلى أكثر من ضعف حجمهم عام 2015 ليصل إلى ما يقرب من 2.1 مليار، يعيش ثلثاهم في المناطق النامية حيث تتزايد أعدادهم بشكل أسرع هناك عما كانت عليه في المناطق المتقدمة. تبعا لهذه الإحصائيات وغيرها فقد أصبح من الضروري أن ينظر بشكل متزايد الآن إلى كبار السن باعتبارهم من المساهمين في التنمية بحيث تدمج قدراتهم وخبراتهم من أجل النهوض بأنفسهم ومجتمعاتهم في السياسات والبرامج على جميع المستويات. ذلك أن الاستمرار في إبعاد كبار السن عن القيام بأي دور إنتاجي، يؤدي إلى رفع معدلات الإعالة بدرجة تعوق عملية التنمية، وتقلل من المدخرات المطلوبة لها، علما بأن القوى العاملة ممن يبلغون سن الستين تمثل طاقة عمل وإنتاج اكتسبت خبراتها عبر سنوات طويلة يصعب تعويضها بمجرد إضافة أعداد مماثلة من الطاقات الجديدة على سوق العمل، خاصة وأن عدداً من القطاعات الرائدة في المجتمع لا يتأثر العطاء فيها بالسن. بل أن دواعي الخبرة وعمق التجربة التي اكتسبها المتقاعدين من شأنها أن تثري عمل تلك القطاعات . ويعني كل ذلك باختصار الاستثمار الأمثل لما يسميه البعض “خزانات الخبرة المهملة”. II. التجربة اليابانية في موقع الريادة الدولية : على غرار المنحى التطوري للشيخوخة في العالم ، تشير إحصائيات إلى أن العدد التقديري للأشخاص الذين تبلغ أعمارهم ٦٥ عاما أو أكثر في اليابان قد وصل سنة 2017 إلى أكثر من 35 مليون شخص ، أي ما يمثل 27,7٪ من إجمالي عدد السكان في البلاد، بل إن عدد الأشخاص الذين يبلغون من العمر 90 عاما أو أكثر تجاوز المليوني نسمة للمرة الأولى على الإطلاق في تاريخ اليابان. وذلك وفق نتائج مسح أجري قبيل الاحتفال بيوم المسنين الذي يعتبر يوم عطلة وطنية في اليابان. غير أن مرحلة الشيخوخة التي يعتبرها البعض نهاية الحياة، قد تكون عند البعض الآخر بداية حياة جديدة، وفرصة لاكتشاف الذات، والجلوس مع النفس وتقييم إمكاناتها، بعد سنوات طويلة من العمل ومعاركة الحياة، يتفرغ فيها الشخص إلى حياته الخاصة، وممارسة أوجه الحياة التي كانت زحمة العمل تعيقه عنها، فتتكشف فيه مهارات جديدة قد يتفرغ لها، كالميل للكتابة وإفادة الآخرين من واقع تجربته الطويلة، ووضع خبراته بين يدي الأجيال القادمة، أو تقديم هذه الخبرات عن طريق المحاضرات والاستشارات، أو الميل إلى مجالات الخدمات التطوعية المجتمعية، أو الترفيه عن النفس واكتشاف آفاق جديدة في الحياة والثقافات والأمم والشعوب، عن طريق السفر والاطلاع والقراءة. في هذا الاتجاه يأتي النموذج الياباني من خلال إستراتيجية :” التقاعد .. بداية جديدة لمرحلة مختلفة” . ليعكس اهتمام اليابان بتلك الشريحة المهمة وذلك من خلال برنامج اجتماعي اقتصادي يعتمد إضافتهم إلى المعادلة التنموية الشاملة في مواقع متنوعة سواء كانت ذات صلة بتلك التي قضوا فيها فترة عملهم أو غير ذات صلة، وذلك بإعادة تعيينهم كمستشارين في مؤسسات الحكومة والمجتمع المدني والجمعيات الأهلية مع تغيير طفيف بمواعيد دوامهم يتماشى مع المرحلة العمرية، بجانب شمولهم بمظلة الأمان الاجتماعي والاقتصادي.. لهذا الغرض أيضا أنشئت جامعة للمتقاعدين في مدينة ( كاكوجاد ) ، عام 1969م ، يشترط في الانتساب لها أن يكون الشخص قد تجاوز الستين عاما ، ومدة الدراسة فيها أربع سنوات .و يتضمن برنامجها : الثقافة العامة – الدراسات العلمية –علم النفس – اتجاهات الاقتصاد الياباني … الخ. أما البرنامج العملي ، فيتضمن فلاحة البساتين ، وطرق تربية الأسماك ، والطيور ، وصناعة الأواني الفخارية ، وغيرها من الحرف اليدوية . كما يتضمن برنامج الدراسة في هذه الجامعة زيارة كافة المواقع والمعالم الأثرية في اليابان . تلك الإستراتيجية ملأت على كبار السن باليابان أوقاتهم حتى أصبحوا أكثر شعوب الأرض حياة، ولم تعد الشيخوخة فيها مأساة ولا حالة يأس، وذلك على الرغم من أنها تحقق رقماً قياسياً عالمياً في عدد كبار السن (ما فوق 65 سنة). وقد أدرك القطاع التجاري الاستهلاكي في اليابان أهمية تأمين الخدمات المتنوعة لهذه الفئة الجديدة من المستهلكين التي تملك الوقت والمال (يسيطر المتقاعدون على القسم الأكبر من أسهم مؤسسات التوفير اليابانية, أي حوالي 48.1 بليون يورو) ولا تتوانى عن الإنفاق في السفر والرحلات وشراء الملابس والطعام الصحي للمحافظة على الرشاقة والحيوية. وتحولت الجزر اليابانية – نتيجة لذلك – إلى سوق ضخمة خاصة بجيل المتقاعدين الجدد, التي تؤمن لهم المنتجات والخدمات التي تتكيف مع احتياجات ورغبات كبار السن. وعليه فالياباني يستهلك في شيخوخته أكثر من فترة من عمره وبطريقة مختلفة . ويعتبر الياباني أن التقاعد هو عبارة عن حياة جديدة يستطيع فيها تحقيق ما لم يقدر عليه سابقاً، بسبب طول ساعات العمل. ولا يتردد في صرف تقاعده الشهري البالغ نحو 2250 يورو كمعدل متوسط, أو مد يده إلى بعض مدخراته لإشباع رغبته في السفر والعيش حسب رغبته. وبناء عليه فإن كبار السن ما فوق 65 سنة أصبحوا المحرك الأساسي للاستهلاك المحلي . يشار هنا إلى أن المجتمع الياباني يخصص يوما تقفل فيه جميع المؤسسات الرسمية، برا بكبار السن وتعبيرا لهم عن الحب والاحترام والتقدير، ما يعد من القيم الأصيلة التي تضرب بجذورها في عمق ثقافة وتقاليد المجتمع الياباني والواقع أن العالم المتقدم يزخر بتجارب لا تقل أهمية عن التجربة اليابانية ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: – هيئة الخبراء المسنين : وهي هيئة ألمانية تضم أكثر من 5000 خبير ألماني من المتقاعدين ، في جميع القطاعات ، ويعمل الخبراء مجاناً في هذه الهيئة ذات الصالح العام . – تنظيم الأرشيف الوطني : وهو برنامج تنظمه جمعية المتقاعدين الأمريكية، حيث أن المتقاعدين أكثر دراية وخبرة في مثل هذا العمل ، وشكلت فرق متكاملة تبنتها الجمعية لتوثيق تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في مختلف جوانب الحياة ، اجتماعيا ، واقتصاديا ، وثقافيا ، وسياسيا . – جمعية المتطوعين المتقاعدين الأمريكية: أنشئت في عام 1969م ، وتعمل على مساعدة الأشخاص من سن الخامسة والخمسين وأكثر على إيجاد فرص عمل لخدمة المجتمع المحلي والاستفادة من خبراتهم المهنية كل حسب طاقته واهتمامه ميوله . وتتراوح ساعات العمل من بضع ساعات إلى أربعون ساعة اسبوعياً . وهم نشيطون في مجالات عديدة منها التعليم والتدريب ومساعدة كبار السن في التخطيط لأمورهم المالية . كما يعمل البعض منهم كمرشدين ومساعدين ومتطوعين في المستشفيات ، والمكتبات ، وحملات البيئة ، والإغاثة ، والطوارئ ، وغيرها من الخدمات .كما يقدم أعضاء الجمعية خدمات استشارية للشباب في مجال إقامة مشروعات جديدة. – برنامج المرافق الكبير : ويقوم هذا البرنامج الذي أنشأته الخدمة الوطنية التعاونية للكبار بالولايات المتحدة الأمريكية ، على خلق مجموعات صغيرة ممن بلغوا سن الستين عاما فما فوق ، هدفها بناء علاقات صداقة إنسانية للمسنين ومساعدتهم على إنجاز بعض الأعمال المنزلية ، وتوفير المواصلات لنقلهم ومرافقتهم للمستشفيات لتلقي العلاج ، وزيارتهم المستمرة ، والخروج معهم قدر المستطاع ، أو تنظيم الأنشطة الترفيهية بهدف التخفيف من شعور هؤلاء المسنين بالوحدة . III. في عالمنا العربي الإسلامي تجارب محتشمة: على صعيد الواقع العربي والإسلامي ما زال التعامل الرسمي مع ملف المتقاعدين وكبار السن يركز على الجوانب الاجتماعية والنفسية بعيدا عن الأسس الاقتصادية والتنموية التي تقوم على إعادة دمج تلك الشريحة المهمة في منظومة العمل والإنتاج. وتتواجد جمعيات للمتقاعدين وكبار السن في كل من مصر وتونس والمغرب والمملكة العربية السعودية وغيرها ، تختص بتقديم الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية والترويحية للمسنين، ويغلب عليها المنظور الخدمي أكثر منه التنموي . غير أن الأمر يبدو أكثر تقدما عندما يتعلق الأمر بالتوصيات ومشاريع القرارات والقوانين : من ذلك مثلا ما نصت عليه المادة الحادية عشر من المبادئ العامة للسياسة العربية الخليجية المشتركة لرعاية ومشاركة كبار السن التي اعتمدها مجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدورته السادسة عشرة المنعقدة في أكتوبر عام 1999 والتي نصت على: ” تصميم برنامج وطني لتشجيع الشيخوخة المنتجة يعمل على توفير الفرص والمشروعات الفردية التي تدعمها المؤسسات لمصلحة المسنين، كما تشتمل تلك الأنشطة لتطوير حياة وظيفية ثانية لهم وإيجاد الوظائف على أساس عدم التفرغ التام، خاصة في ظل زيادة أعداهم وتنوع مجالات عملهم،ذلك أن الاهتمام بهم في هذا الجانب له عوائد اقتصادية وأمنية تعود بالنفع على المجتمع. “. في السياق المغربي نجد أيضا إشارات تصب في نفس المنحى في تقرير خاص بالأشخاص المسنين أصدره المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الذي ينطلق من أن للأشخاص المسنين إمكانياتٍ لا يُستهان بها من المَعَارف والخبرات والتخصصات الكَفيلة بالمُساهمة في التنْمية. غيرَ أنّ هذه المعارفَ ونقلَها إلى الأجيال القادمة لم تتوفر لها بعدُ الشروط والوسائل لاستغلالها وتوظيفها بالقدْر الكافي . لذلك يوصي في محور بعنوان: ” تعزيز المشاركة الاجتماعية للأشخاص المسنين ” ، بما يلي : – تثمين الرّصيد الثقافي الذي راكمه الأشخاص المسنّون، وتيسير سُبُل نقله إلى الأجيال المقبلة، وخلق المؤسّسات والأنشطة الكفيلة بتحفيزهم على المشاركة؛ – تعزيز وتسريع عملية محاربة الأمية في صفوف الأشخاص المسنين، وتمكينهم من فرص الاستفادة من برامج التكوين مدى الحياة؛ – انخراط مختلف المؤسسات الإعلامية للقيام بحملات تحسيسية وتواصلية حول دور المسنين في المجتمع، وتثمين عطاءاتهم، واستثمار خبراتهم لفائدة الأجيال والمجتمع. عود على بدء : يبدو التحول السريع نحو الشيخوخة من أبرز التحديات التي سيواجهها العالم على نحو متزايد في العقود المقبلة . وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار حقيقة ديمغرافية ثانية وهي الارتفاع المطرد لأمد الحياة ، فإن المزاوجة بين مقاربة الرعاية الاجتماعية للمسنين وبين المقاربة التنموية مسألة يفرضها واقع التطور . ولعل هذا ما ينسجم أيضا مع التوجيهات القرآنية والنبوية الداعية إلى توقير وإجلال كبارالسن . ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أنه قال ” إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ ” وعَنْ أَنَس بْن مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَبْطَأَ القَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا“. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العلاقات الأسرية بين قيم التضامن وقيم التعاقد د .محمد ابراهمي

تقديم: تعتبر الأسرة من أهم مؤسسات المجتمع المؤثرة في بنائه وفي استمراريته وفاعليته، وفي بلورة القيم وغرسها بمختلف أبعادها الدينية والأخلاقية والاجتماعية.. ،وفي تمرير شبكة المفاهيم ومعايير السلوك وأهداف المجتمع وغاياته، فهي مرآة عاكسة لصور التغيير والتحولات المختلفة التي يعرفها المجتمع، كما أنها خلية أولى تنبني عليها حركية وفاعلية كافة المؤسسات والهيئات فيه، وتختلف منظومة القيم الضابطة والموجهة لمكونات الأسرة، والمسهمة في تحديد مخرجاتها القيمية والسلوكية تبعا للقيم المرجعية لكل مجتمع، والمبادئ والثوابت الأصيلة المؤطرة لتوجهاته والمحددة لهويته، والتي تسهم في مخرجاته التصورية والسلوكية، ولعل منظومة القيم واحدة من التوابث والمخرجات في الوقت نفسه التي تسهم في توجيه مؤسسات المجتمع، كما تسهم هذه المؤسسات في إنتاجها، لذلك فالمقالة ستركز على منظومة القيم المرجعية وآثارها في بنية العلاقات الاجتماعية في الأسرة من خلال المقارنة بين مجتمعين، الأول غربي قائمة فيه العلاقة على قيم التعاقد في الغالب، وعربي مسلم قائمة فيه العلاقة على قيم التضامن والتراحم في الغالب. 1: الأسس المرجعية لقيم التعاقد وآثراها الاجتماعية في العلاقات العائلية: الأسرة في الفلسفات الغربية مؤسسة اجتماعية كباقي مؤسسات المجتمع مع الاختلاف في مقاربة وظيفتها وأهميتها ومكانتها، وطبيعة علاقاتها باختلاف الاتجاهات والمدارس الاجتماعية، فهي حاجة اجتماعية في الاتجاه الوظيفي تستجيب لمتطلبات العقل الجمعي، وتسعى للحفاظ على استقرار المجتمع واستمراره من خلال تساند وظيفي داخلي وخارجي يحقق التوازن والانسجام بين مختلف مكونات البناء الاجتماعي. وهي أداة تختلف وظيفتها وشبكة علاقاتها باختلاف موقعها الطبقي في الاتجاه الصراعي، فقد تكون أداة تحرر إذا تحررت من كل القيود التقليدية، وانفكت من كل الروابط العائلية، كما قد تكون أداة بأيدي الطبقات البرجوازية لمجابهة الثورة وأفكار التحرر إذا ارتبطت بطابعها التقليدي العائلي المنغلق على ذاته، فتختصر وظيفتها في إنجاب القوى العاملة والأيدي الفاعلة. وهو ما جعل العلاقات الأسرية في هذه المدارس يطبعها المنطق التعاقدي، ويحكمها النفس المصلحي، حيث التحرر بين طرفي الأسرة من الالتزامات في الغالب، والخضوع لمنطق الشراكة في تدبير شؤون الأسرة المادية والاجتماعية، وهو ما انعكس في طبيعة العلاقات البينية بين أفراد الأسرة، حيث العيش بمنطق التعاقد والمصلحة المتبادلة، تعاقد ينتهي بمجرد الإخلال بشروطه من أحد أطراف التعاقد دون تبعات أخلاقية، كما انعكس ذلك على باقي أفراد الأسرة خاصة الأطفال منهم، وفي طبيعة علاقتهم بآبائهم التي تتحول إلى علاقة عابرة بمجرد بلوغ السن القانوني للأطفال، والذي يخولهم الانفصال عن آبائهم، والإلقاء بهم في دور العجزة ورعاية المسنين إذا تعذر على الآباء الاعتناء بأنفسهم. ولعل معطيات الدراسات ومراكز الأبحاث تثبت ذلك، حيث ارتفاع العنف الأسري والطلاق والإجهاض والتخلي عن الآباء والعلاقات بين الجنسين بدون عقد زواج… وهو منطق لا يعم عموم الأسر الغربية بالطبع، خاصة التي ما زالت محافظة على القيم المسيحية، وتطالب بالتمسك بها في التشريعات القانونية المنظمة للعلاقات الأسرية نشأة وعلاقة وهو ما أشار إليه ” الباحث الأمريكي لاسليت بيتر في كتابه: “العالم الذي فقدناه”، ووليتل مارتن في كتابه: “انكسار العائلة” ،وماكلين إلينور في مقالته العلمية بعنوان :”إشكال العائلة غير التقليدية”. 2: الأسس المرجعية لقيم التضامن وآثارها الاجتماعية في العلاقات العائلية: إن تتبع آيات القرآن الكريم في الاجتماع الأسري ابتداءً وفي مراحله المختلفة يكشف أن الأدوار والوظائف التي أنيطت بهذا الاجتماع، قائمة على قيم التساكن والتراحم، يثبت ذلك قوله تعالى ” وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” الروم آية 21. وقوله تعالى ” ” هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ” البقرة آية 187. وهو نظام قائم على قيم التضامن والتكافل في نظام العلاقات الاجتماعية والمالية يثبت ذلك عدالة توزيع الحقوق المالية بين أفراد العائلة، فهو ” نظام يراعي ـ قيم ـ التكافل العائلي كاملا، ويوزع الأنصبة على قدر وواجب كل فرد في الأسرة في هذا التكافل.. وهو نظام يراعي أصل تكوين الأسرة البشرية من نفس واحدة فلا يحرم امرأة ولا صغيرا لمجرد أنه امرأة أو صغير، ولا يميز جنسا على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي والاجتماعي، وهو نظام يراعي طبيعة الفطرة بصفة عامة، وفطرة الإنسان بصفة خاصة، فيقدم الذرية في الإرث على الأصول وعلى بقية القرابة، لأن الجيل الناشئ هو أداة الامتداد وحفظ النوع، فهو أولى بالرعاية، ومع هذا فلم يحرم الأصول، ولم يحرم بقية القرابات..” وهو نظام قائم على قيم الطاعة والإحسان والبر بالكبار، قال تعالى ” وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” البقرة 83. وقال تعالى ” وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” النساء 36. وقال عز وجل ” قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” الأنعام 151. وقال تعالى ” وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا” الإسراء 24. وقال عز وجل ” وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ” الأحقاف 15 وقال تعالى ” وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ” العنكبوت 8. وقد قرن الله عز وجل الأمر بالبر بالآباء وطاعتهم والإحسان إليهم في أغلب الآيات بتوحيد الله وعبادته، وفي ذلك إشارة إلى عظم الأمر المطلوب، وخطورة الإخلال به. وهو نظام قائم على الرحمة والعدل بالصغار، رحمة يؤكدها قوله تعالى ” وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا” الإسراء 23/24 ” ففي النص تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة، فإن الأبوة تقتضي رحمة الوالد، وصغر الولد يقتضي الرحمة به، ولو لم يكن ولدك، فصار قوله تعالى { كما ربياني صغيرا } قائما مقام قوله { كما ربياني ورحماني بتربيتهما”. وترجمها عفو يعقوب عليه السلام عن أبنائه، ورحمته بهم رغم شدة الضرر الذي سببوه له، قال تعالى ” قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 98 يوسف” ” أي انقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب”. وعدل جسده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ” ساووا بين أبنائكم في العطية” وروى أنس أن رجلا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخضه، وجاءت إبنة له فأجلسها بين يديه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ” ألا سويت بينهم”. وفيما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما أن أباه أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نحلت ابني هذا ـ أي أعطيته ـ غلاما كان لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مل هذا؟ فقال لا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه. وفي رواية : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بشير، ألك ولد سوى هذا؟ فقال نعم. قال: أكلهم وهبت لهم مثل هذا؟ قال: لا. قال: فلا تشهدني إذن، فإني لا أشهد على جور. ثم قال: أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال بلى. قال: فلا إذن. فالرحمة والعدل والإحسان والتساكن والطاعة والمودة مجموعة قيم مرجعية تؤسس لعلاقات أسرية يطبعها قيم التعاون والتضامن والتراحم، وتضمن تماسك الأسرة واستقرارها وبالتبع تماسك المجتمع واستقراره، وهذا ما نلمسه في بنية الأسرة المغربية حيث معالم التراحم والتضامن متجسدة في العلاقات بين أفراد الأسر، ومن مؤشراتها تدبير أموال الأسر والنفقة على المحتاج فيهم، ونفقة الآباء على الأبناء ورعاية الأبناء للآباء، ومساعدة الأغنياء من أفراد الأسر للفقراء، والتعاون في الملمات والمصائب والأتراح، وفي المناسبات والأفراح، ورعاية الكبار والإحسان إليهم، وعدم الإلقاء بهم في دور العجزة، أو الاعتداء عليهم. وهي قيم لا يشذ عنها إلا القليل في المجتمع المغربي، والشاذ عن هذه القيم متنكر لقيمه المرجعية، متطلع لقيم وافدة تعاقدية تجعل من الأسرة شركة يجمع أفرادها مصالح مادية وآنية، ينفرط عقدها بتلاشي المصالح القائمة بين أفرادها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انعكاسات رعاية الكبار على الأسرة والمجتمع د. مصطفى قرطاح

تمهيد: قضى الله تعالى بحكمته أن تمر حياة أغلب الناس من مراحل ثلاث، أولها مرحلة الطفولة، وبعدها مرحلة الشباب ثم تليها مرحلة الشيخوخة. وقد بين ذلك سبحانه بقوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67] وجعل سبحانه لكل مرحلة ميزة تميزها عن باقي المراحل الأخرى، فبينما تتميز مرحلة الشباب بالقوة والشدة بجميع معانيها، فإن مرحلة الطفولة والشيخوخة تتميزان بالضعف. وقد صرح القرآن الكريم بما يتوالى على الإنسان من قوة وضعف {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضُعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضُعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضُعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]؛ غير أن ثمة فارقا جوهريا بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، حيث إن الأول ضعف فطري يتناسب مع بداية خلق الإنسان ومقتبل عمره، أما ضعف الشيخوخة فإنه يأتي بعد إدبار مرحلة الشباب حيث أفنى الشيخ كامل قواه في سبيل رعاية الصغار وخدمتهم. وإذا كان ضعف الأطفال يجبر عادة برعاية الأبوين وحنانهما وشفقتهما، فإن الكبار قد لا يحظون بالعناية التي تناسبهم، بل قد يجدون من المجتمع التأفف والتبرم وسوء المعاملة. لذا كان من قبيل مجازاة الإحسان بالإحسان أن يأمر الإسلام برعاية الكبار والمسنين وجعلها من باب الوفاء بحقوق الله تعالى حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أنه قال «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» . إن قيام المجتمع بمختلف مؤسساته الاجتماعية برعاية الكبار والعناية بهم يعكس إلى حد كبير قيمة الإنسان في هذا المجتمع ومقدار التكريم الذي يحظى به بين أفراده، كما يعكس مدى اعتراف أفراده بفضل الأجيال السابقة على الأجيال الحالية، وبفضل الآباء على الأبناء.وكلما حظي كبار السن بعناية حسنة من مؤسسات المجتمع إلا وانعكس ذلك بصورة إيجابية على الأسرة والمجتمع، فكيف ذلك؟ المحور الأول: انعكاسات رعاية الكبار على الأسر: يسعى الآباء إلى تعليم أبنائهم وتربيتهم تربية حسنة، ويتوسلون إلى ذلك بكل الوسائل التربوية المتاحة لديهم من قول حسن وفعل راشد وتوجيه سديد. غير أن المتفق عليه بين جميع المربين هو أن أفضل وسيلة تربوية فعالة ومؤثرة تأثيرا عميقا في النفوس هي التربية بالقدوة الحسنة، حي يقدم الآباء من أنفسهم نموذجا جيدا لما ينبغي أن يجدوه في أبنائهم من أخلاق حسنة. لذلك كان لرعاية كبار السن أثره العميق في تربية أفراد الأسرة؛ فعوض كثرة الحديث عن وجوب احترام الصغير للكبير، ووجوب بر الوالدين، يكفي أن يقدم الآباء ذلك في صورة حية مجسدة على أرض الواقع من خلال رعاية آبائهم وذوي رحمهم من كبار السن، فيحصدون ثمرة ذلك من جانب أبنائهم أيضا احتراما لهم وبرا بهم. وقد وعد النبي صلى عليه وسلم وعد الصدق بهذا الجزاء فعَنْ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ وَعِفِّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ» وقال عليه الصلاة والسلام: «ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه» .وواضح أن الحديثين معا بما فيهما من ربط بين العمل والجزاء يندرجان ضمن القواعد القرآنية المقررة: {و وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ }[ القصص:77 ] وقوله تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }[الرحمن:60]. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما عرفته الأسرة في العصر الحاضر من تحولات اجتماعية وإكراهات اقتصادية، حيث صارت الأسرة نووية مكونة من أب وأم يعملان معا طول اليوم، ولهما طفل أو طفلان؛ وما أحدثه ذلك التحول من تأثيرات نفسية سلبية على أفراد الأسر، بحكم الخبرة القليلة والتجربة المتواضعة في معالجة المشاكل الزوجية وتربية الأبناء، فإن رعاية الكبار من قبل الأسر قد يسهم في التخفيف من آثار تلك التحولاتمن خلال الاستفادة من خبرة الكبار في حل المشاكل الأسرية والنزاعات التي تطرأ بين أفراد الأسرة، وذلك لما يتميز به الكبار عادة من تؤدة وحكمة واتزان في تقدير المشاكل والأخطاء والصبر على مواجهتها والتماس سبل حلها. وقد دعا الله تعالى إلى بعث الحكمين من أجل رأب الصدع والشقاق القائم بين الزوجين تفاديا لوقوع الطلاق فقال سبحانه وتعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} [النساء: 35]، ومن الأحكام الفقهية التي أوردها الإمام أبو بكر بن العربي في تفسير هذه الآية أنه «يجزئ إرسال الواحد» وقال أيضا:«الأصل في الحكمين أن يكونا من الأهل؛ والحكمة في ذلك أن الأهل أعرف بأحوال الزوجين، وأقرب إلى أن يرجع الزوجان إليهما؛ فأحكم الله سبحانه الأمر بأهله.قال علماؤنا: فإن لم يكن لهما أهل، أو كان ولم يكن فيهم من يصلح لذلك لعدم العدالة أو غير ذلك من المعاني فإن الحاكم يختار حكمين عدلين من المسلمين لهما أو لأحدهما كيفما كان عدم الحكمين منهما أو من أحدهما، ويستحب أن يكونا جارين؛ وهذا لأن الغرض من الحكمين معلوم، والذي فات بكونهما من أهلهما يسير، فيكون الأجنبي المختار قائما مقامهما، وربما كان أوفى منهما» . وأرى أن ما ذكره ابن العربي في حق الأجنبي أو الجار قد يتحقق بصورة أفضل إذا وجد أحد كبار السن بين أفراد الأسرة، فإنه أعرف بحالهما وحريص على ائتلافهما. كما أنه يمكن للأسرة أن تستفيد من خبرة الكبار في تربية أبنائها، لما للكبار عادة من سعة الصدر وقدرة على تحمل أخطاء الصغار، فيجتمع لتربية الأطفال حزم الأبوين وحكمة الكبار. وقد كان هذا الأمر متحققا بقدر جيد حين كانت الأسر المغربية أسرا جامعة، حيث يجتمع في الأسرة الواحدة الآباء والأبناء والأجداد والأعمام وأبناء العمومة، فيتهيأ للصغار قدر كبير من الإشباع العاطفي الذي يتزودونه من جهات مختلفة من أفراد الأسرة، وتتحقق عندهم القدرة على الاندماج في المجتمع والانصهار فيه. أما حين أصبحت الأسرة صغيرة قليلة الأفراد فقد نشأ عدد كبير من أطفالها على التذلل والأنانية والإفراط في حب الذات، وهو ما ينعكس على أخلاقهم بشكل سلبي ويؤثر على قدرتهم على التعايش الاجتماعي. وقد كان الأجداد والجدات إلى عهد قريب مصدرا للأطفال لسماع الحكايات والأساطير والروايات الغريبة، وخاصة قبل النوم؛ وهو الأمر الذي كان يساعدهم على تنمية خيالهم وتوسيع مداركهم، مما يؤهلهم للإبداع والابتكار بمختلف صوره. أما بعد انتشار التلفاز وهيمنة ثقافة الصورة فقد انكمش هذا الدور التربوي لكبار السن مما أثر سلبا على القدرات التواصلية للأطفال وأضعف حاسة النقد وملكة التفكير لديهم. ولا ينبغي أن نتجاهل الأجر الذي تناله الأسرة من رعاية كبار السن، وهو ما يتجلى في سعة الرزق وحضور بركته، فقد صح عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْغُونِيضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ ومعناه أي «ببركتهم ودعائهم لصفاء ضمائرهم وقلة تعلقهم بزخرف الدنيا، فيغلب عليهم الإخلاص في العبادة ويستجاب دعاؤهم» ؛ كما أن الحافظ ابن حبان رحمه الله تعالى قد أورد الحديث في صحيحه وترجم له بقوله ” باب الاستعانة بدعاء الضعفاء” . وعليه فينبغي السعي إلى طلب الرزق وتحصيل بركته برعاية كبار السن واحتضان الأسر لهم. المحور الثاني: انعكاسات رعاية الكبار على المجتمع: لعل ما ينعكس على الأسر من فضل وخير نتيجة رعاية الكبار ينعكس كذلك على المجتمع، باعتبار أن هذا الأخيرما هو إلا مجموعة من الأسر الملتحمة تعيش في حيز جغرافي متقارب. غير أنه يمكن أن نجد آثارا أخرى للعناية بشريحة كبار السن تنعكس على المجتمع بشكل أوضح مما تنعكس على الأسر. وهي آثار تنعكس على الجانب النفسي ـ الاجتماعي، وعلى الجانب الاقتصادي كذلك. ويتجاوز الأمر ذلك إلى التأثير على المكانة الحضارية للأمة بين غيرها من الأمم. أ‌ ـ على المستوى النفسي ـ الاجتماعي: تعمل الفئات النشيطة في أي مجتمع وعينها تتطلع إلى المستقبل، وبالذات إلى ما بعد سن التقاعد وبلوغ مرحلة الشيخوخة؛ ويجتمع لها في ذلك مشاعر الأمل والقلق. أما الأمل الذي يحدوها فمقتضاه أن يكون مستقبلها يليق بمستوى ما قدمته من تضحيات لصالح المجتمع، وأن تحظى بعرفان الجميل والتقدير الحسن جزاء وفاقا لما أسدته من معروف للأجيال الناشئة. وأما القلق الذي يساورها فمصدره أن يقابل جهدها بالتنكر وسوء التقدير، وقد يتعزز ذلك بما تشاهده من وقائع اجتماعية تعكس سوء المعاملة الشيوخ وإهمالهم. وإذا كانت الحكمة البشرية والتجربة الإنسانية قد انتهت إلى إنشاء صناديق التقاعد ومنظمات الاحتياط الاجتماعي وإقرار التأمين على الشيخوخة؛ والدعوة إلى الإعداد الجيد والمبكر لهذه المرحلة، من خلال اتخاذ التدابير الاقتصادية والمالية الناجعة، للحفاظ على مستوى العيش الكريم الذي يليق بالإنسان في هذه المرحلة الحساسة من عمره، فإن المنظومة القيمية والأخلاقية التي تقر وتؤكد على أهمية العناية بفئة الشيوخ ورعايتهم واحترامهم من شأنها أن تؤمن الجانب المعنوي والنفسي والاجتماعي لهذه الفئة. لذا فإن المجتمع الذي يعلي من قيمة العناية بكبار السن ويترجم ذلك إلى سلوك منتشر بين أفراده وأسره ومؤسساته الأهلية، ويقدم الخدمات الاجتماعية المادية والمعنوية التي تليق بما قدمته هذه الفئة من تضحيات في فترة شبابها، فهو في الحقيقة يبعث برسائل طمأنة إلى فئاته النشيطة؛ إذ يبعث في نفوسها السكينة والطمأنينة على أن مجهوداتها لن تضيع هدرا، وأن المجتمع قد وفر لها شبكة أمان لمستقبلها، الأمر الذي يحفزها على المزيد من العطاء والبذل، ويبدد كل مشاعر القلق لديها من المستقبل، فيرتفع مستوى الانتاج الاقتصادي تبعا لذلك. وإذا كانت الأمم التي تتطلع إلى مستقبل أفضل تهتم بفئات الأطفال والشباب والنساء، فإن تحقيق النتائج المرجوة من ذلك الاهتمام لن تكتمل إلا بالعناية بفئة الشيوخ والعجزة؛وأما دون ذلك فسيكون الأمر مجرد استغلال فاحش وتصرف لئيم يتأسس على الاستفادة من الفئة النافعة ثم التخلي عنها بعد أن يقل نفعها. وقد انتبه عمر رضي الله عنه إلى هذا المسلك وحذر من خطورته. مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله فرضخ1 له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيته ثم نخذله عند الهرم ” . ب‌ ـ على مستوى المكانة الحضارية للأمة: فمكانة أي أمة إنما تقدر بقيمة ومكانة الشرائح الاجتماعية المشكلة لها، ومستوى العناية الذي تحظى به، ونوعية السياسات العمومية التي تعدها لها. ومهما يكن المستوى الاقتصادي أو التقني أو العسكري أو غير ذلك من مؤشرات القوة لأمة ما عاليا، فإنه يبقى دون أي قيمة أو دلالة ما لم ينعكس على شرائحها الاجتماعية. فعناية أي أمة بشيوخها يعتبر سبب احترام وتقدير لها من سائر الأمم الأخرى، وتصبح قدوة في هذا الشأن ومضرب المثل لغيرها. ولعل هذا من تجليات الجزاء الذي وعد به الله تعالى من يجل الشيوخ ويرعاهم ويقدر مكانتهم، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم. فالأمر ليس موجها إلى الأفراد فحسب، بل هو موجه إلى المجتمع بأسره وإلى الأمة كلها. ومَنْ أَجَلّ الله تعالى قابله الله تعالى بجزاء مثله فأَجَلَّهُ بين أقرانه وبسط له من الهيبة والوقار ما لا يتحقق له بغيره من أسباب القوة الأخرى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

واقع كبار السن بالمغرب وإشكاليات الرعاية الاجتماعية: مقاربة رصدية ذ. مصطفى بنزروالة

من الحقائق البديهية التي أثبتتها عديد الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية التي تناولت المجتمع المغربي بالدراسة والتحليل، أن الأخير عرف العديد من التحولات على مستوى البنية الاجتماعية عامة وعلى نواته خاصة. والأمر يتعلق هنا بالتحولات البنيوية التي تشهدها الأسرة المغربية من منطق الاسرة التقليدية أو ما يصطلح عليه في الأدبيات الأنثروبولوجية بالأسر الموسعة التي كانت حاضنة لجميع أفراد العائلة إلى نوع حديث من الأسر وهي الأسرة النووية . وهو تحول كان له بالغ الأثر وعميق الوقع على منطق التماسك الاسري والتكافل بين أفراد العائلة الموسعة وعلى راسهم الأباء وكبار السن، الذين أصبحوا أمام إشكالات اجتماعية حقيقية في المواكبة والاحتضان والتتبع والرعاية، وهو الأمر كذلك الذي يختبر منظومة قيم المغاربة، وتمثلاتهم وخلفياتهم الثقافية والمرجعية في علاقاتهم بالآباء وكبار السن. وتعتبر قضية رعاية المسنين من الإشكالات الاجتماعية التي تحظى براهنية ، وتفرض نفسها بقوة على الفعل الاجتماعي العمومي وفي السياسات العمومية المتعلقة بالتنمية الاجتماعية، إذ أن شيخوخة الساكنة تؤثر في النمو الاقتصادي، وفي حجم الادخار، والاستثمار والاستهلاك، وسوق الشغل، والأنظمة الصحية والجبايات وأنماط العيش والتفاعل المتبادل بين الأجيال. لذلك فإن هذه المعطيات ينبغي أخذها بعين الاعتبار من طرف المشرع وصانع القرار في تسطير برامج مختلف السياسات العمومية المتعلقة بهذه الفئة والتي بلغ عددها حسب تقارير رسمية ، حوالي 3 مليون شخص، أي ما يعادل 9 بالمائة من مجموع الساكنة حسب البحث الوطني الديمغرافي المتعدد الزيارات الذي أنجزته المندوبية السامية للتخطيط سنة 2010 . كما أشار ذات البحث إلى أن عدد البالغين من العمر 60 سنة فما فوق قد بلغ 2,6 مليون شخص سنة 2010 ومن المتوقع أن يبلغ عدد هذه الفئة حوالي 10,1 مليون بحلول سنة 2050 وهو الأمر الذي يفسر بانخفاض معدلات الوفيات وتراجع معدلات الخصوبة، وارتفاع متوسط العمر عند الولادة وارتفاع أمد الحياة. ما يجعل التفكير الاستراتيجي في كيفيات التدخل والتخطيط لصالح دعم ورعاية هذه الفئة الاجتماعية أمرا لا محيد عنه ويجعل منه أولوية الأوليات المطروحة على السجل الاجتماعي والنقاش السياسي العمومي. وأثبتت ذات التقارير، أن المغاربة و بالرغم من هذه التحولات الديموغرافية إلا بنسبة 60،8 بالمائة منهم لا يتهيئون لهذه المرحلة العمرية . وما يزيد من معاناة هذه الفئة أن حوالي 16 بالمائة فقط يتوفرون على معاشات و58 بالمائة منهم يعانون من أمراض مزمنة تفترض المتابعة والمعاينة الدائمة، مع استحضار معطى أدرجته المندوبية السامية للتخطيط في تقاريرها، يستوجب الوقوف معه حقيقة وهو أن نسبة 30 في المائة من المسنين بالمغرب لا يستطيعون القيام بأي وظيفة في حياتهم اليومية. وفيما يتعلق بمسألة التضامن العائلي ومنظومة القيم المؤطرة لسلوك المغاربة تجاه كبار السن عموما والأباء خصوصا فقد أشارت التقارير الرسمية (خاصة المنجزة من طرف وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية) أن 6،8 بالمائة فقط يعيشون في حالة عزلة (9،8 بالمائة بالنسبة النساء )، نظرا لكون النساء أكثر عرضة للعزلة الناتجة عن وفاة الزوج . وهو رقم دال يمكن تفسيره باستمرار قيم التكافل الاسري، والحضور القوي للتضامن العائلي عند المغاربة وهي من الشيم الثقافية التي تدل صراحة على تقليد أصيل في الاسر المغربية التي تعتبر العناية بكبار السن من الواجبات الأساسية للأفراد وهو ما يبرز جليا من خلال استنطاق معطى دال آخر وهو أن 93،3 بالمائة من مجموع المسنين يحافظون على علاقات منتظمة مع أبنائهم، وأن 82،7 بالمئة تلجأ إليهم أسرهم لتقديم النصائح ونقل القيم للأطفال في إطار التنشئة الاجتماعية للأجيال. للتغلب على الأوضاعالسلبية، ولمعالجة إشكاليات هذه الفئة التي تعاني بحسب الأرقام الواردة في التقارير الرسمية، وكذلك بعض الدراسات الأكاديمية، رصد الفاعل الحكومي العديد من الإجراءات والتدابير التي من شانها المساهمة في التخفيف من الأوضاع التي تعيشها هذه الفئة الهشة اجتماعيا. في هذا السياق وعلى المستوى المؤسساتي خصصت الدولة العديد من الهيئات والمؤسسات المتدخلة في وضعية كبار السن ، فبالإضافة إلى وزارة التضامن والمرأة والتنمية الاجتماعية، هناك العديد من المؤسسات المعنية بشكل مباشر بهذا الموضوع وعلى رأسها مؤسسة التعاون الوطني، ووكالة التنمية الاجتماعية، والتي أخذت على عاتقها سن مجموعة من التدابير التي تستهدف تطوير البرامج والمبادرات الرامية إلى النهوض بالعمل التكافلي والتضامني، والمساهمة في تحقيق الانصاف والمساواة والعدالة والاجتماعية، إضافة إلى تدعيم حقوق الفئات الاجتماعية وعلى رأسها المسنون ولعل أولى الإجراءات الهادفة إلى حماية هذه الفئة هي الإجراءات القانونية والتشريعية حيث نص المشرع المغربي، خاصة في مقتضيات مدونة الاسرة، على كون نفقة الأبوين تجب على أبنائهما، ولو دون عجز فإذا كان الاب أو الأم عديمي الأهلية فإن المشرع نص على إلزامية الرقابة القضائية في مثل هذه الأحوال، ويقصد بالرقابة في هذه الحالة رعاية مصالح عديمي الأهلية أو ناقصيها، في هذا السياق تنص المادة 197 على أن ” النفقة على الأقارب تجب على الأولاد للوالدين، وعلى الأبوين لأولادهما طبقا لأحكام هذه المدونة، كما تنص المادة 203 على أن “توزع نفقة الأباء على الأبناء عند تعدد الأولاد بحسب يسر الأولاد لا بحسب إرثهم” هذه المقتضيات القانونية وغيرها تعبر عن مراعاة الشارع المغربي لوضعية المسنين وتسعى إلى حمايتهم ورعايتهم. أما ما يخص الإجراءات والتدابير الاجتماعية من طرف الفاعل الحكومي الرسمي فقد تعددت مداخلها بين البعد المؤسساتي حيث تم مطلع سنة 2015 تأسيس المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، وفي السياق ذاته عملت الوزارة الوصية على القطاع على إحداث المرصد الوطني للمسنين الذي تتحدد مهامه في رصد وتحليل المعطيات والمستجدات المتعلقة بالشيخوخة وتجميع المعطيات والمستجدات حول التجارب الدولية في المجال والقيام بالدراسات حول التحولات الديموغرافية للسكان إلى غيرها من الوظائف البحثية والرصدية في تحليل وتتبع حالة الشيخوخة وكبار السن. ليستتبع ذلك تدخلات مباشرة عبر برامج ومخططات تتركز أساسا في الإدماج بالمؤسسات الخاصة بالرعاية الاجتماعية، إعادة الإدماج داخل الأسر، الإلحاق بالمراكز الاستشفائية، التكفل بالحالات من طرف بعض المحسنين، إلى غيرها من التدخلات والتي تبقى غير كافية بطبيعة الحال رغم أهميتها باستحضار مجموعة من الإشكالات والتحديات والتي يبقى من أبرزها : متعلق بالسياسات العمومية وبرامج العمل التي تم إعدادها في هذا الصّدد،فتجدر الملاحظة أنها تتسم، بطابعها الجزْئيّ وغير المندمج، فضْلاً عنْ وجودِ تأخر ملموس في تكوين الموارد البشرية المتخصصة في طبّ الأشخاص المسنين، وفي المهن الصحّية المتعلقة بهذه الفئة، كما أنّ هناكَ نقصاً في تخصصات في الرعاية النفسية والطب العقلي الخاصّيْن بالشيخوخة، وفي العمل الاجتماعي… وتُلاحَظ أيضا نقائص في مجال العناية الصحية المتناسبة مع الاحتياجات الخاصة للأشْخاص المسنّين، وانْعدام الدراسات والأبحاث في مجالِ الشيخوخة. وعلى الرغم من أن الأمر يتعلق بمسؤولية الدولة تجاه الأشخاص المسنين، كباقي المواطنات والمواطنين، فإن المجهودات الموازية للمجتمع المدني في هذاالمجال تظل محدودة ولا تحظى بالدعم المالي والتأهيل المهني لمواكبة طبيعة حاجيات المسنين مما يؤثّر سلبا على جودة التأطير والتدبير والخدمات التي تقدمها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إكرام المسنين ومراعاة أحوالهم د . صالح النشاط

أصبحت أعداد شريحة كبار السن تتزايد بشكل كبير، وأصبحت تمثل فئة عريضة في الهرم السكاني لكثير من المجتمعات، وهو ما دعا إليه الإسلام في الاهتمام الواسع بهذه الشريحة من الناس، وحثه على احترام الكبير والمسن، وإكرامه وتوقيره، والسعي لخدمته وقضاء حاجاته ومطالبه ومراعاة أحواله. إن المسنين يعيشون مرحلة الشيخوخة، والتي تأتي بعدما ينهي الإنسان مرحلة الشباب التي يكتمل فيها نضجه العقلي والبدني، وبالتالي فهي مرحلة الضعف التدريجي حتى يصير ضعيفاً كما كان في طور الطفولة، وفيها يضطر الإنسان إلى الاعتماد على مساعدة غيره في القيام بشؤون نفسه، فإذا كان الإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً، فإنه في طور الشيخوخة، وتقدم السن يدخل في طور من الخلق لا يعلم فيه شيئاً كما قال الله عز وجل. “ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا”( ). فكيف هو وضع المسنين في ضوء الرؤية المعرفية الإسلامية، وكيف يكون إكرامهم وخدمتهم ومراعاة أحوالهم؟ أولا: المسنون في ضوء الرؤية المعرفية الإسلامية شكلت الرؤية المعرفية الإسلامية إلى الإنسان نظرة متكاملة، ومتوازنة في كلياتها وجزئياتها، فالإنسان وفق هذه الرؤية هو كيان مستقل يبدأ تدرجه العمري من مرحلة الطفولة؛ ومرحلة الشباب ثم مرحلة الشيخوخة، أي أن الله تعالى قد رتب عمر الإنسان على ثلاث مراتب: الطفولة، وبلوغ الأشد والشيخوخة، وهذا ترتيب مطابق للعقل كما يقول بذلك الإمام الرازي، وبذلك تكون المراحل التي يمر منها جسم الإنسان متعددة ومتباينة؛ حيث تدشن حياته بخروجه من بطن أمه طفلاً، لا يعلم شيئاً، فيبدأ في تدرجه في اكتساب الحواس التي من خلالها يتم اكتشاف محيطه وبيئته، ثم بعد ذلك يكبر الجسم ويصير الإنسان شاباً ويافعا وقويا، ومؤهلا للانخراط الكلي في الحياة العامة، ثم تتوالى عليه السنوات فيتناقص شبابه وقوته فيصل به المطاف إلى سن يصبح معه كهلا غير قادر على إتيان ما كان يأتيه في مرحلة الشباب، وهو ما يسمى بمرحلة الهرم أو الشيخوخة. إنها دورة الحياة ومراحلها التي يقطعها جسم الإنسان، فيبدأ بالضعف في مرحلة الطفولة، ثم مرحلة القوة في مرحلة الشباب ثم يعود مرة أخرى إلى مرحلة الضعف وهي مرحلة الشيخوخة، وفي هذا يقول الله تعالى: ” الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير”( )، ويقول أيضا: “هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون” ( ). ثمة إذن ثلاث مراحل أساسية يعيشها الإنسان إجمالا، وهي مرحلة الطفولة؛ مرحلة الشباب ومرحلة الشيخوخة، وقد تكون هناك حالات لبعض الأفراد واقعة في صف الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، فيشوبها الضعف أو بعض الضعف في جميع أطوار تدرجها. وتعتبر مرحلة التقدم في السن هي المرحلة التي يكبر فيها الإنسان، ويتجاوز مرحلة الشباب، ويصير فيها شيخا هرما، بعدما أنجب وصار أبا وجـــدا. إن مرحلة الشيخوخة هي تلك المرحلة التي يدخلها الإنسان بعدما ينتهي مشواره في مرحلة الشباب والفتوة، وتظهر عليه علامات الضعف العام التي تعبر عنها تلك التغيرات الجسمية، والصحية، والاجتماعية، والنفسية، والعقلية التي تطرأ على حياة الشخص، ونجد تعبيرا لهذا الضعف في قوله تعالى: “الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير”( ). وتعتبر الشيخوخة سُـنة من سنن الله في خلقه، وطورا زمنيا حتميا يسري على جميع المخلوقات، فكل كائن حي يمر بمراحل الطفولة والشباب والشيخوخة، ففي عالم الحيوانات والنباتات وغيرها، نجد هذه المراحل الثلاث قد تتحقق عند كل حيوان وكل نوع من النبات، ولنا في القرآن الكريم تعبير عن هذه الحقيقة من خلال قول الله تعالى: “لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب”( )، ويقول أيضا: “اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور”( ). ثانيا: إكرام المسنين وخدمتهم وتقديرا لمنزلة المسلم المسن في الإسلام، وردت مجموعة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تشيد بمكانة ذي الشيبة المسلم، وتراعي جانب الضعف الذي يجده في آواخر سنوات حياته، روى كعب بن مرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة”( )، وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم”( )، بل إن الله تعالى قد قرن عبادته مع الإحسان إلى الوالدين ـ غالبا ما يكونون مسنين ـ حيث قال الله تعالى: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما”( ). ومن جملة الآداب التي أكد عليها الإسلام هو الرضى النفسي للشيخ عن شيبته وكهولته، ونبهه حتى من إجراء تغييرات على ملامح عمره من قبيل نتف الشيب وإزالته فهذا الشيب هو نعمة من نعم الله على الإنسان في هذه المرحلة، ونحن نستحضر ما قاله زكرياء عليه السلام إلى ربه: “قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً”، حيث تم التشبيه لانتشار شيب الشعر في الرأس بالنار في انتشارها في الهشيم، وأسند التعبير القرآني الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وبذلك وصل وصف الشيب في الشيخوخة إلى تأكيد حقيقة لا يمكن لأي كان إنكارها أو إخفاءها، وفي هذا تذكير للإنسان أن هذه المرحلة التي يعيشها رغم ما فيها من ضعف وعنت إلا أنها محطة تكريم وتقدير. ثالثا: مراعاة أحوال المسنين في القرآن الكريم، هناك تعبير عن مفهوم التقدم في السن بكلمة “أرذل العمر”، وكلمة “شيخ” و”عجوز” وقد فسر الإمام القرطبي كلمة “أرذل العمر” بكونها هي أخسه وأدونه، وآخره الذي تضعف فيه القوى، وتفسد فيه حواس الإنسان، ويختل فيه النطق والفكر، ويحصل فيه قلة العلم وسوء الحفظ والخرف، وخصه الله بالرذيلة لأنه حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل؛ ولهذا قال: “لكيلا يعلم من بعد علم شيئا” وقال في سورة يس: “ومن نعمره ننكسه في الخلق”( ). وأرذل العمر هي مرحلة لا يتمناها أحد لنفسه أبداً، لذلك علمتنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ من الله منها فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه فيقول: “اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وعذاب القبر”( ). ومراعاة للحالة الصحية والنفسية لكبار السن، أخذت تشريعات الإسلام بعين الاعتبار هذه الحالة حيث خصصت لهذه الفئة مجموعة من الأحكام الفقهية التي تدور في فلك التخفيف والتيسير، ومن ذلك الرخصة بالإفطار في شهر رمضان، والترخيص لكبير السن في إنابة من يحج عنه لكبر سنه وعجزه عن ذلك، وفي شأن الصلاة أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة الذين يصلون بالناس بالتخفيف في صلاتهم مراعاة لمن خلفهم من الضعفاء وكبار السن وذوي الحاجات. إن مرحلة التقدم في السن هي مرحلة حتمية لكل إنسان، وأنه لا مفر منها لمن أدركها، وهي بهذه الطبيعة لا ينفع معها دواء ولا علاج، ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد الهرم”( )، أي أن الشيخوخة ليس لها دواء، حيث في طور الشيخوخة يضعف الجسم شيئاً فشيئاً، وتتعرض خلاياه البيولوجية إلى مزيد من التقهقر، وتضعف عظام الجسم، كما ورد في القرآن الكريم على لسان نبي الله زكرياء:” قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا”( )، كل هذه العوارض تجعل جسم الإنسان في هذه المرحلة معرضا لكثير من الأمراض والأسقام نتيجة ضعف مناعة الجسم خصوصا في مرحلة الشيخوخة المتأخرة، وهذا يقتضي الاهتمام والرعاية الاجتماعية اللازمة. إن التأمل في أطوار الخلق التي تنتهي بالشيخوخة وضعف الجسم وهرمه، يؤكد على أن الحياة الدنيا إنما هي بمثابة لحظة في تاريخ الإنسان الطويل، وأنها دار عبور وقنطرة توصل الإنسان إلى مقره الدائم حيث الآخرة، حيث هناك الجزاء الأوفى عن كل الأعمال التي أنتجها الإنسان في لحظة شبابه وشيخوخته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“جـــــناح الــــــذل” (فصل في كتاب) ذ . محمد أزناك

عنوان جميل لفصل جميل هو الفصل ما قبل الأخير من كتاب للأستاذ إبراهيم بن عمر السكران تحت عنوان ” مسلكيات ” . والواقع أن مجرد قراءة العنوان يسلمك لتأملات سرعان ما تجد الكاتب قد سبقك إليها ، ويعرضها عليك في أسلوب سلس شيق لا تملك معه إلا متابعة القراءة إلى النهاية . الفصل – كما هو واضح – قراءة في الآية الكريمة ” واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ” في سياق توصية رب العالمين بالإحسان للوالدين. لكن ما استرعى انتباه الكاتب وحفز تأملاته ، هو هذه الاستعارة القرآنية العجيبة التي أثارت لديه سؤالا قرع ذهنه بصورة مستمرة . والسؤال هو : “لماذا أضاف الله هذا(الجناح)الحسي المعروف إلى (الذل) الذي هو سلوك أخلاقي وجزء منه شعور معنوي ؟ ما مغزى هذه الاستعارة ؟ وماذا يريد الله سبحانه بهذا التركيب اللغوي ؟ ولنجعل التساؤل أكثر تحديدا: ما هي الدلالة المتطلب إيحاؤها من لفظ الجناح بما يخدم مفهوم الذل ؟” للإجابة على هذا التساؤل مضى الكاتب يتتبع تأملات المفسرين والبلاغيين حول هذه الاستعارة الجميلة فأجملها في أربعة أوجه ، نسب اثنين منهما للعلامة القفال الشاشي الكبير(ت365هج) في تفسيره المنقول عن غيره والثالث للأديب ضياء الدين بن الأثير(ت 637هج) في كتابه ” المثل السائر ” والرابع للعالم الشهاب الخفاجي (ت 1069هج) في كتابه ” عناية القاضي … ” فأما الوجه الأول فهو أنه لما كان الطائر ينشر جناحه ويرفعه إذا أراد التحليق والصعود، ويخفض جناحه إذا أراد الهبوط والنزول ، فناسب أن يصور التذلل للوالدين كأنه خفض جناح من الطأطأة والخضوع . وأما الوجه الثاني فجوهره أن الطائر يحنو على فراخه فيلفهم بجناحه ويسبله عليهم تعطفا وشفقة، فناسب أن يصور التذلل للوالدين والرحمة بهم كأنه خفض جناح الطائر على فراخه . وفي المعنى الثالث اعتبر ابن الأثير أن الطائر إذا أدركه الإعياء والوهن ” بسط جناحه وألقى نفسه على الأرض ” مصورا بذلك المطلوب من التذلل للوالدين على هذه الصورة . وأخيرا يأتي استكشاف الخفاجي ليضيف معنى رابعا هو أنه ” لما كان الطائر يحلق شامخا ،فإذا فاجأه البازي شله الذعر وأعياه الطيران ولصق بالأرض وخفض جناحيه كالمطرق الذليل ، فناسب أن يصور التذلل للوالدين كأنه خفض جناح الطائر المستسلم ” يستمر الكاتب في استكشافاته البلاغية حين يقارن بين كلمة “الذل ” بضم الذال – وهي القراءة المشهورة – وبين قراءة أخرى وردت عن ابن عباس وعروة بن الزبير وغيرهما بكسر الذال ، فيوضح الفرق نقلا عن ابن جني بأن الفرق بين الذل بالكسر للدابة وهو ضد الصعوبة وأن الذل بالضم للإنسان وهو ضد العز… وكأنهم اختاروا للفصل بينهما الضمة للإنسان والكسرة للدابة . ثم يقول ” فانظر بالله عليك في هذه القراءة الأخرى التي بالكسر كيف أٍراد الله فيها أن نكون في التذلل للوالدين كما تكون الدابة ذليلة منقادة مستكينة مطاوعة لراعيها”. بعد هذه الجولة اللغوية والبلاغية الطريفة يمضي المؤلف في سرد شيق لمنارات من “خفض الجناح ” عبر جغرافية التراث الإسلامي ، مناوبا ذلك بتعليقات متحسرة على صور من العقوق يصادفها المتتبع في واقعنا الراهن : فهاهو التابعي الجليل ميمون ابن مهران وقد رزقه الله بابن عالم هو الحافظ عمرو بن ميمون بن مهران (ت 145هج) ، وكان الابن بارا بوالده. ومما جاء في ترجمته أنه خرج بأبيه يقوده في بعض سكك البصرة فمر بجدول فلم يستطع الشيخ أن يتخطاه ، فاضطجع له فمر على ظهره. وهذا التابعي الإمام الحافظ عبد الله بن عون (ت151 هج )، كان ممن امتزج بروحه دلالات الآية الكريمة ووقف على دقائق تجلياتها فلاحظ أن مما يدخل في خفض جناح الذل للوالدين”مراعاة مستوى الصوت ” . بل إنه تمثل هذه الملاحظة عمليا : فقد نادته أمه يوما فأجابها ، فعلا صوته صوتها ، فأعتق رقبتين مستعظما علو الصوت على والدته . ومن تجليات “خفض جناح الذل ” مع الوالدين كمال الأدب في طريقة النظر إليهما وخضوع العيون للعيون .. فقد روي عن عطاء وعروة من ضمن تفسيرهم لهذه الآية : ” ولا تحد بصرك إليهما إجلالا وتعظيما ” … وهو نفس المعنى الوارد عن عائشة مرفوعا – مع علة فيه – ” ما بر أباه من حد إليه الطرف ” ، وعبر عنه المناوي في إشارة بديعة حين قال : ” العقوق كما يكون بالقول والفعل ، يكون بمجرد اللحظ المشعر بالغضب ” مقابل هذه النماذج المضيئة يبسط الكاتب على سبيل المقارنة صورا من واقع اليوم ، فيقول مثلا : ” حينما أرى شابا عليه سيماء الاستقامة لكنه يجادل والده بمنطق الند تحاصرني الوجوه الأربعة المشار إليها في الاستعارة القرآنية … وحين أرى شابا آخر يصرخ من غرفته في الدور الثاني على والدته مستبطئا غداءه … أو ثالثا يتفنن في قرع أبواق سيارته يستعجل والدته الخروج من المنزل ليذهب بها في مشوار التمسته منه ، وترى الوالدة المسكينة تتقافز تجمع أغراضها مشوشة الذهن تحت ضغط منبهات سيارته … وربما رابعا يستثقل مرافقة والده في مستشفى … ينظر لوالده المكشوف نصفه الأعلى لأنابيب الحياة … ويسارق النظر لرسائل أصحابه في الجوال تستحثه للنزهة … فيتكلف الأعذار ليركب الريح … عندها – يعلق الكاتب – أبقى أردد في ذهني : “هل هذا خفض جناح الذل كما يخفض الطير جناحه للهبوط ؟ أو كما يسبل الطير جناحه لفراخه حنوا عليهم ؟ أهو الإطراق الذي يريده الله أمام الوالدين كما يطرق الطير استسلاما أمام البازي ؟ ” ومع ذلك ، فإن المؤلف – بنوع من التوازن وحتى لا يبدو كالمتحامل على عصره – يختم هذا الفصل بقوله : ” وبرغم كل هذه الصور البائسة اليوم في عدم التفطن لدقائق قول الله ( واخفض لهما جناح الذل )فما زال في الأمة خير ولله الحمد .. وما زالت صور من البر يتناقلها الناس اليوم سرجا يستضاء بها في سماء المادية الكالحة في هذا العصر..”

العمق المغربي 2019/4/16

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى