الاعتبار من تعاقب الليل والنهار بعد انصرام رمضان

يقول الله تعالى: ” وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب، و كل شيء فصلناه تفصيلا”، أيها المومنون، لقد مضى شهر رمضان وانصرمت لياليه وأيامه، ورحلت معه برحيله فضائله وأعلامه، وطويت صحائف الصيام والقيام، وأعقبه العيد يوم لا كالأيام، يوم البهجة والفرح والحلة وتزاور الأحباب والخلان، وها هو طويت ذكراه كأنه ما كان، وهاهم الناس قد عادوا إلى ما ألفوه من انشغال بالدنيا وانغماس في فتنتها، وما اعتادوه من غفلة عن الآخرة وتقصير في إعداد عدتها، ذهب الجد والاجتهاد، وتفرق الناس كل في واد، ألا يأيها الناس انتبهوا ولا تغفلوا، فما رمضان بمعبود، ولا التوجه فيه إلى الله دون سواه من الشهور بمقصود، فالأيام كلها أيام الله، و المقصود المعبود طول الدهر واحد هو الله، حرمته سبحانه لا تتغير ولا تتبدل بتغير الأيام و تتحول، فمن اعتقد أن الاجتهاد في العبادة قاصر على شهر رمضان، وأن عمارة المساجد وحضور الصلوات بها و تلاوة القرآن خاص بهذا الشهر دون غيره من الشهور والأيام، دل اعتقاده هذا على جهل كبير بحكمة تشريع الصيام، ومن هونت له نفسه الرتوعَ بعد رمضان في المعاصي و الآثام، أو الإخلادَ إلى الكسل و التراخي عن أداء الفرائض وإهمال التقرب إلى الله بالنوافل، دل ذلك منه على ضعف في الإيمان وعدم الخشية من الله الملك الديان.

ألا فاعلموا هداكم الله أن ما اكتسبتموه من محاسن العادات في شهر الصيـام، وما ألزمتموه أنفسكم أو التزمتموه فيه من طاعات وقربات ومكارم أخلاق، كل ذلك مغانم أنعم الله عليكم بها لا ينبغي تضييعها، ولا يحسن بكم التفريط فيها، فقد ذقتم حلاوة العبادة و الطاعة، وانتعشت أرواحكم ببركتها، وتنسمتم نفحات تلاوة القرآن فازددتم بفضل الله مع ما معكم من إيمان إيمانا، و تصديقا بوعد ربكم و إيقانا، وزادكم الله بالقرآن نورا على نور، شرح منكم به الصدور وشفاها، و طمأن القلوب وهداها، فكم تلوتم من السور و الآيات، وكم تدبرتم من بيناته المفصلات، وكم استخلصتم من العبر والـدلالات، ألم يكن لذوي العقول السليمة في ذلك ما يشفي غليلها ويكفيها،فالمؤمنون حقا هم من تنفعهم الذكرى،ألم تسمعوا إلى قوله سبحانه :” أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها”، ألم تُصْغُوا إلى قوله سبحانه بعد أن فصل آيات الصيام، و ذكر ما يلزم لهذه العبادة من أحكام” كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون”، ألم تقرأوا قوله سبحانه بعد تفصيله حكم القتال في الشهر الحرام، وحكم النفقات مم تكون وفيم تصرف، وحكم الخمر والميسر، حيث توج ذلك البيان بقوله” كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة” فاتقوا عباد الله ربَّكم، ولا تعطلوا أدوات الفهم ووسائل التبصرة والاعتبار التي لديكم، فقد دعاكم الله في كتابه إلى توظيفها، وأجيلوا بعقولكم الأفكار في هذه الدنيا والهدف من حياتكم فيها، فقد حذركم القرآن من مصير الغافلين اللاهين في حياتهم عن المقصد من وجودهم في الأرض واستخلافهم، ألا تذكرون الوعيد الشديد، في قوله سبحانه : “ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها و لهمُ أعين لا يبصرون بها، و لهمُ آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون”، فإياكم إخواني المؤمنين ومتابعة الغافلين وصُحبَتهم، فإنه كما نهانا الله عن الغفلة نهانا عن خلطة المتصفين بها، وابتدأ في ذلك النهي بنهي نبيه عليه الصلاة والسلام إذ خاطبه بقوله: ” ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه و كان أمره فُرُطا “.

عباد الله  اعلموا أنه من المنطق الصحيح، ومن الحكمة عند ذي العقل الرجيح أن يفرح المومن بحسناتـه ويحزن على خطيئـاته فقد قال صلى الله عليه وسلم:”من سرته حسنته، وساءته سيئته فذلك هو المؤمن” (أي الصحيح الإيمان)، فإياكم عباد الله والقهقرا، والرجوع إلى الورا، كيف و أنتم الذين كنتم تدعون ربكم بالغدو الآصال أن يثبت أقدامكم، فاحذروا من زلة القدم بعد ثبوتها، فقد قال عز شأنه في ذلك:” ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، فإن زللتم من بعدما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم”.

عباد الله! اسألوا الله وادعوه مخلصيـــن أن يرزقنـا وإياكم التوبة النصوح والإنابة الكاملة إليه، والحفظ والعصمة من الزلل، وحافظوا هداكم الله على صحبة من يعينكم على ذكر الله و طاعته، ويدلكم على لزوم تقواه وخشيته، فإن لزوم الدالين على الله تعالى في هذا الزمان بمثابة الركوب في سفينة نوح يوم الطوفان، والمتخلف عنهم لا يأمن على نفسه أن يكون من المغرقين، إذ لا عاصم من فتن الزمان المضلة إلا من رحم الله.

ذ. سعيد منقار بنيس

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى